“دستو يفسكي” هل ستصلك حروفي إن كتبت

إب نيوز ١٩ مايو

عفاف البعداني

أصر على تهذيب الروح، ودفن الشقاء، ورفع التهاويل، ونزع التراجيف المنهكة، وتهدأة التنبؤات الوجلة، و الخلاصة أنني فقدت تعابير ذاتي منذ زمن ؛ لكني أخيرًا عثرت عليها بين الكتب، وغبار المكاتب المسنّة، في عالم أدبي شهي ، منحني العوز عن كل ذي حاجة بعيدة، أهيم بمحتوى الصفحات، و أنتقل من اسم لمسمى، من كاتب لآخر ، أسافر لمناطق متعددة ، أعبر جسور ممدة ، وأنا في نفس المكان ، أُتابع تصوير الكتُاب للأشياء المعشعشة فيني والمطمورة بطيف خفي ؛ و الذي عجزت تماما عن إيجازه بعقليتي العصرية.

أود أن أفهم لهم أكثر من شعور، وأكثر من فصيلة، أعي تراكيبهم المنطقية الملتقية في نصوص وروايات آسرة ، ليس فيها شيء من الإبتذال ، أو رذاذ من التصنع كما هو حال الكتابة في عصرنا، إن كتُبهم تصل إلينا بسرعة ضوئية لاتقاس بمعايير محددة، نهيم بها طواعية، دون أي عقبات ذهنية، والسبب الرئيسي في ذلك كله : هي بساطتهم وصدقهم فيمَ يكتبون، وما يعيشون، فليست الحروف بنظرهم إلا محراب مقدس ، ووحي طاهر، وشخص مستتر بين الفطرة وتصويب الشعور .

لذا أجدني أبحث عن مزايا كاتب في أكثر من كتاب، وأكثر من تجربة، لأصل لبعض صفاته وأتمعنها جيدًا ، كما لو كان عمري مشقوقا لنصفين، نصف أضم به عصري، والنصف الآخر يلهو معهم في بواطن الكتب، أحيانا يصل بي الأمر أن أعثر عنمّ أبحث عنه في سطر واحد، أو ربما أقل من ذلك، وأحيانا أفقده تماما وسط محيط غني بالتصورات العميقة، والتجارب الغويصة، يصبح البحث لاجدوى منه ، فليس هناك مؤهلات تدفعني لمواصلة البحث بين رفيف المكاتب، وصفحات الكتب المصتفة .

ربما إنه لغز الروح للروح ، متاهة العصر للعمر، في حين يقرر المرء البحث عن نفسه وهذا من أشد الأمور صعوبة على الإنسان المجتهد، إذًا إنني أبحث عن الجزء المجهول في كل نص معروف، والفصل المفقود في كل رواية مكتملة ، وهذا ماينهش الجسد وتدفع ثمنه الروح فليس في مدينتي خبز بلا ثمن ، وبداية قرأت للمنفلوطي، وانتقلت لمصطفى محمود، لخوليان ، لغسان وقليل لمصطفى الرافعي، وها أنا أقف عند بوابة جديدة للأدب ، وهي للأديب الذي بالكاد حفظت اسمه كان صعبا عليّ ولكن في نهاية الأمر نحجت في حفظ اسمه إنه يُدعى “دستو يسفكي” .

قرأت له خمسةَ كتب ومازلت أتوق لقراءة المزيد عنه ، كم شدني كتابه الأول حاولت ببداهتي متابعة بقية سطوره ، و فهم تراكيب شعوره المعقدة والتي انفصلت عن الواقع بشكل تام ومجل، وانزوت قليلا عن اليقين القطعي بلطف الله ؛ لكني استطعت أن أصل للخيط الرفيع الذي مازال يربطه بالعالم ، المتحرك ، ومالذي جعل كتبه تأخذ قسطا كبيرا من مستراح القارئين، إنها روحه المسالمة و المساندة للفقراء والمساكين بكل الروايات، كأنه خلق خصيصًا ليصف معناتهم، و صعوبة معيشتهم المنهكة، يحمي قصصهم من هجاء المتهورين ونظريتهم الساخرة، أدبيته عفيفة و ليست باذخة ؛ لكنها خالية من التعقيدات لديه طريقة ماكرة في الاستعطاف ، تتمحور سطوره حول سرد القصص، في قالب مؤثر أيما تأثير .

كأنني كنت أبحث عن نفسي في تقاسيم سطوره، بل إنني أحيانا أشم وحدة تشابه قوية بيننا كتجاعيدنا السطورية، أثوابنا البالية ، منزلنا القديم، تصورنا العميق، وحلمنا الهرم، تعابيرنا القلقة التي تخبأ نفسها من كل قارئ ، وفي نفس الوقت تتوق شوقا للخروج دفعة واحدة ، ولكن الشي ء المختلف أني مازلت فقيرة الأدب والمفردات ولست ملمة بحكايات الشعوب أكثر ، ولكن ما أؤمن به حد اليقين، أن أمتلك الرؤية ، أنافي الإبتذال ، وأفسر تأثيرك الغريب والذي يحف منطقة في عقلي بكثير من المجازفة .

أدهشتني بساطتك ، تعجبت لثيابك المتسخة بالحظ السيء، وحلمك الذي اتخذ سخرية لعديمي الفكر، أخذتني حاجتك المُلحة للعيش البسيط ، وخالفتك في عدة أمور، أهمها تقديمك للذات بقالب مليء بالتنازلات، والرضوخ للحظوظ السيئة، والمجتمع الغبي، بحجة الفوارق المنطقية والمعيشية و الجمالية.

والحقيقة : أنها ليست سببا كافيا للتعاسة، إن التفاوت البشري “يادستو يفسكي” الذي أودعه الله في العقول والمادة والاقتصاد، والعاطفة، معجزة وضعها الله فينا ؛ لنتعرف على أسرار الكون بدقة أكثر.

إن العالم جميل جدا سيد/ دستو يفسكي…. وإن قل فيه المعروف، العالم جميل وإن حُجب عنه الإحسان ، ولو كانت الأطوال الموجية في الجهاز البصري متساوية لم نكن؛ لنميز الألوان المختلفة، ربما العالم كان أزرقا مملا، أو أخضرا فاتحا يدعو للرتابة، ولكن الله شرع الاختلاف، فلكل لون طول موجي محدد، وهذا ماجعلنا نميز الحياة بعدة صور مختلفة البحر أزرق ، والشمس صفراء، والزهر محمر، والكرز بنفسجي، والطبيعة بطور مختلف، هكذا هي حتيمات الحياة أديبنا/ دستو يفسكي….. صحيح لايمكنني تصور تجاربك العاطفية والاجتماعية القاسية، مرارة الصباح بعصرك ، وشحوبة الليل بعمرك ، شحيحة التفسير أنا لتفكيك الحجم الواسع للكون القابع في ذهنك؛ لكنني وددت لو كنت أكثر تفاءلا وحبا للحياة، أكثر بعدا للبؤس وأكثر قربا من السعادة، التي وضعها الله لأولي الأبصار .

غريبا كنت وكم في الغرابة بداهة رأيت حياة جميلة وبسيطة في كتبك، ليست بتلك الحياة التي عنيت بوصفها بالنقصان والفقر، بل إنني أعدها ملك لم يطاله أمير ، حقا أن هناك ، بين ما أختلجه الأدباء في معاناتهم وشقاءهم متعة عامرة ، في النهاية ، السلام ، والرحمة، على روحك النائمة .

 

You might also like