القصة السرية للديون السعودية في الولايات المتحدة.
إب نيوز31-05-2016
| ترجمة وتحرير فتحي التريكي – الخليج الجديد
لم يكن الفشل حينها خيارا.
حدث ذلك في يوليو/تموز عام 1974. كان ضوء الفجر قد شق السماء الملبدة بالغيوم عندما صعد «وليام سايمون» وزير الخزانة الأمريكي المعين حديثا ونائبه «جيري بارسكي» على متن الرحلة الجوية التي انطلقت في تمام الساعة الثامنة صباحا من قاعدة أندروز الجوية. على متن تلك الطائرة، كان المزاج العام يغلب عليه التوتر. في تلك السنة، كانت أزمة النفط تضرب الولايات المتحدة في أعقاب قيام دول أوبك العربية بحظر تصدير النفط إلى الولايات المتحدة ردا على المساعدات العسكرية الأمريكية للإسرائيليين خلال حرب يوم الغفران. في ذلك الوقت، زادت أسعار النفط إلى أربعة أضعاف، كما ارتفع معدل التضخم وتحطمت سوق الأسهم ودخل الاقتصاد الأمريكي في حالة من الفوضى. (الصورة: أزمة الوقود الأمريكية خلال السبعينيات).
رسميا، تم تصنيف رحلة «سايمون» التي امتدت لمدة أسبوعين كجولة من الدبلوماسية الاقتصادية شملت جميع أنحاء أوروبا والشرق الأوسط. ولكن مهمته الحقيقية، التي كانت معروفة فقط للدائرة المقربة من الرئيس «ريتشارد نيكسون»، كانت تتطلب منه التوقف لمدة أربعة أيام في مدينة جدة الساحلية في المملكة العربية السعودية.
الهدف: تحييد النفط الخام كسلاح الاقتصادي وإيجاد وسيلة لإقناع المملكة المعادية بتمويل العجز المتسع في الولايات المتحدة من ثروة البترودولار المكتشفة حديثا. ووفقا لـ«بارسكي»، فإن «نيكسون» كان قد أكد أنه لا يمكن قبول العودة من هذه الرحلة بخفي حنين. لم يكن الفشل يهدد فقط السلامة المالية للولايات المتحدة، ولكنه كان يمكن أن يعطي الفرصة للاتحاد السوفيتي لتحقيق المزيد من النجاحات في العالم العربي.
«لم يكن الأمر مسألة يمكن القيام بها أو لا يمكن القيام بها» وفقا لـ«بارسكي»، أبرز المسؤولين الذين رافقوا «سايمون» خلال زيارته.
للوهلة الأولى، بدا أن« سايمون» كان مجرد مكلف بمهمة من قبل قيصر الطاقة «نيكسون» الذي كان يبدو غير مناسب لمثل هذا النوع من الدبلوماسية الحساسة. قبل أن يتم توظيفه من قبل «نيسكون»، كان «سايمون» يدير مكتب سندات الخزانة سايمون برازرز في نيوجيرسي. قبل أسبوع فقط من وضع قدميه في المملكة العربية السعودية، كان «سايمون» قد انتقد علنا شاه إيران، الحليف الإقليمي الوثيق للولايات المتحدة في ذلك التوقيت.
ولكن «سايمون»، أكثر من أي شخص آخر، كان قد وعي ما يعنيه اتساع الدين الحكومي الأمريكي وكيف يمكن أن يبيع للسعوديين فكرة أن الولايات المتحدة هي المكان الأفضل لاستثمار عائداتهم النفطية. مع هذه المعرفة، وضعت الإدارة خطة غير مسبوقة شعارها أكون أو لا أكون بهدف التأثير على جميع جوانب العلاقات الأمريكية السعودية على مدى العقود الأربعة المقبلة. (توفي سايمون في عام 2000 عن عمر يناهز 72 عاما).
وكان الإطار الأساسي بسيط بشكل لافت للنظر. سوف تقوم الولايات المتحدة بشراء النفط من المملكة العربية السعودية وتوفير المساعدات والمعدات العسكرية المملكة. وفي المقابل فإن السعوديين سوف يستثمرون ثروات البترودولار مرة أخرى في سندات الخزانة الأمريكية من أجل تمويل الإنفاق الأمريكي.
السر الأكبر
ويقول «بارسكي» إن الأمر قد استغرق عدة اجتماعات من أجل تسوية جميع التفاصيل. ولكن في النهاية، بعد شهور من المفاوضات، بقيت هناك تفصيلة واحدة صغيرة، ولكن حاسمة، وهي إصرار الملك «فيصل» على أن تكون قيمة مشتريات السعودية من سندات الخزانة الأمريكية سرية تماما، وفقا لبرقية دبلوماسية حصلت عليها بلومبيرغ من قاعدة بيانات المحفوظات الوطنية.
بمساعدة مسؤولي وزارة الخزانة ومجلس الاحتياطي الاتحادي، تم الحفاظ على هذا السر لأكثر من أربعة عقود. في استجابة لطلب استخدام قانون حرية المعلومات المقدم من «بلومبيرغ»، تم الإفصاح عن حيازة المملكة العربية السعودية هذا الشهر. ووفقا للمتحدثة «ويتني تروف» فإن الكنز السعودي الذي تبلغ قيمته 117 مليار دولار يجعل المملكة واحدة من أكبر الدائنين الأجانب للولايات المتحدة.
ولكن بشكل ما، فإن هذه المعلومات قد أثارت من الأسئلة أكثر مما أجابت. وقد صرح مسؤول سابق في وزارة الخزانة متخصص في احتياطات البنك المركزي طلب عدم الكشف عن هويته أن الرقم الرسمي يمثل استخفافا كبيرا بالاستثمارات السعودية في السندات الحكومية الأمريكية، والتي قد تلغ قيمتها ضعف هذا الرقم أو أكثر.
يمثل الرقم الذي تم الإفصاح عنه 20% فقط من الاحتياطي النقدي السعودي وهو أقل بكثير مما تحويه البنوك المركزية عادة من الأصول الدولارية. ويتوقع بعض المحللين أن المملكة ربما تكون قد أخفت بعض حيازاتها من الديون الأمريكية من خلال المراكز المالية الخارجية، والتي تظهر في بيانات بلدان أخرى.
وقد صارت قيمة ما تملكه السعودية من الديون الأمريكية أكثر أهمية في الوقت الراهن من أي زمن مضى.
يتسبب انهيار أسعار النفط في تعميق القلق من أن المملكة العربية السعودية سوف تحتاج إلى تصفية سندات الخزانة لجمع المال. كما أن هناك مخاوف متزايدة من استخدام المملكة لموقعها في سوق الدين الأكبر عالميا كسلاح سياسي، تماما كما فعلت مع النفط في السبعينيات.
في إبريل/نيسان، هددت المملكة العربية السعودية أنها سوف تبدأ في بيع 750 مليار دولار من سندات الخزانة إضافة إلى أصول أخرى في حال أقر الكونغرس مشروع قانون يسمح بإدانة المملكة في المحاكم الأمريكية عن أي مسؤولية في هجمات 11 سبتمبر/أيلول وفقا لصحيفة «نيويورك تايمز» ويأتي هذا التهديد في الوقت الذي يواصل فيه مجموعة من مرشحي الرئاسة والمشرعين من كلا الحزبين الديمقراطي والجمهوري الضغط لرفع السرية عن 28 صفحة من تقرير للحكومة الأمريكية عام 2004 يعتقد أنها تحوي تفاصيل حول دور السعودية في هذه الهجمات. مشروع القانون الذي أقره مجلس الشيوخ يوم 17 مايو/أيار، قد صار الآن في حوزة مجلس النواب.
وقد رفضت وزارة المالية السعودية التعليق على خبر البيع المحتمل لسندات الخزانة. كما رفضت مؤسسة النقد العربي السعودي الجواب على طلب الحصول على تفاصيل بشأن حجم مقتنياتها لدى الولايات المتحدة.
«دعونا نفترض أنهم لا يخادعون حول تهديدهم بالانتقام. إن السعوديين يتعرضون بالفعل للكثير من الضغط»، وفق ما يؤكده «مارك تشاندلر»، رئيس وحدة سياسات العملة في راون براذرز هاريمان.
المملكة العربية السعودية، التي طالما قدمت رعاية الصحية المجانية، دعم البنزين، والمنح والعلاوات الدورية لمواطنيها مستغلة ثروة البترودولار تواجه بالفعل أزمة مالية وحشية. في العام الماضي وحده، أحرقت البلاد 111 مليار دولار من احتياطاتها النقدية وحققت أكبر عجز في موازنتها منذ ربع قرن. وقد دفعت ثمنا باهظا لحربها ضد «الدولة الإسلامية» ومواجهاتها المتكررة مع إيران. وعلى الرغم من أن النفط قد استقر عند حوالي 50 دولار للبرميل (بعد أن كان قد انخفض إلى ما دون 30 دولارا هذا العام)، فإن لا يزال أبعد ما يكون (سنوات على الأقل) عن العودة إلى مستويات ما فوق 100 دولار للبرميل. وقد أصبح الوضع في المملكة العربية السعودية حرجا إلى درجة أن المملكة تستعد لبيع قطعة من جوهرة التاج المملوكة للدولة، شركة أرامكو.
ما هو أكثر من ذلك، فإن الالتزام نحو سياسة الاعتماد المتبادل بين الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية، والتي نشأت من صفقة الديون التي عقدها «سايمون» والتي جمعت بين بلدين يتشاركان أقل القليل من القيم، يبدو أنه في طريقه للتحلل. وقد اتخذت أمريكا خطوات مبدئية نحو التقارب مع إيران، وكان أبرزها صفقة الرئيس «باراك أوباما» النووية في العام الماضي. كما جعلت طفرة النفط الصخري الولايات المتحدة أقل اعتمادا على النفط السعودي.
الحفاظ على السر
«شراء السندات وكل الإجراءات المماثلة كانت استراتيجية لإعادة تدوير البترودولار في الاقتصاد الأمريكي»، وفقا لما يؤكده «ديفيد أوتاواي»، وهو زميل الشرق الأوسط في مركز وودرو ويلسون الدولي في واشنطن. «ولكن من الناحية السياسية فقد كانت دوما علاقة غامضة ومليئة بالقيود».
بالعودة مرة أخرى إلى عام 1974، فإنه قد تم التشبث بتلك العلاقة والسرية التي كانت موضوعة كشرط لها وفقا لـ«بارسكي»، الذي يشغل الآن منصب رئيس أورورا كابيتال جروب، وهي شركة خاصة للأسهم في لوس أنجلوس. وكان العديد من حلفاء الولايات المتحدة، بما في ذلك المملكة المتحدة واليابان، يعتمدون بشدة على النفط السعودي ويتنافسون من أجل إعادة استثمار الأموال في اقتصادات بلدانهم.
«الجميع في الولايات المتحدة، فرنسا، بريطانيا، اليابان، كان يحاولون وضع أصابعهم في جيوب السعوديين»، وفقا «جوردون براون» وهو مسؤول اقتصادي سابق في السفارة الأمريكية في الرياض في الفترة بين عامي 1976 و1978.
بالنسبة للسعوديين، فقد لعبت السياسة دورا كبيرا في إصرارهم أن تظل جميع الاستثمارات الخاصة بهم في سندات الخزانة مجهولة.
وقد ظلت التوترات مشتعلة في جميع أنحاء العالم العربي بعد حرب يوم الغفران وكان هناك الكثير من العداء تجاه الولايات المتحدة بسبب دعمها لـ(إسرائيل). وفقا لبرقية دبلوماسية، فقد كان الملك «فيصل» متخوفا من تصور أن أموال النفط السعودي يمكن أن تتحول بشكل مباشر أو غير مباشر في أيدي العدو الأكبر في شكل مساعدات أمريكية إضافية.
وقد حل مسؤولو وزارة الخزانة هذه المعضلة من خلال السماح للسعوديين بالولوج من الأبواب الخلفية. سمحت الولايات المتحدة للسعودية بتجاوز عملية تقديم العطاءات التنافسية الطبيعية لشراء سندات الخزانة. تم استبعاد هذه المجاميع من المزادات الرسمية، وبذلك تم إخفاء كل أثر لوجود المملكة العربية السعودية في سوق السندات الحكومية الأمريكية.
«عندما وصلت إلى السفارة، قيل لي من قبل الناس هناك أن هذا هو عمل وزارة الخزانة»، وفقا لـ«براون». «جميع التعاملات كانت سرية للغاية».
بحلول عام 1977، كانت السعودية قد راكمت نحو 20% من جميع سندات الخزانة المباعة خارجيا. كما منحت المملكة استثناء آخر عندما بدأت وزارة الخزانة في إصدار نشرات شهرية توضح ملكية كل بلد للديون الأمريكية. بدلا من الكشف عن الحيازات السعودية، فقد جمعت الوزارة 14 دولة مثل الكويت والإمارات العربية المتحدة ونيجيريا، تحت عنوان الدول المصدرة للنفط. وقد استمرت هذه الممارسة قائمة لمدة 41 عاما.
ولكن هذا النظام قد جاء ومعه حصته من المتاعب الخاصة. بعد أن تم فتح شراء سندات وزارة الخزانة على سائر البنوك المركزية فإن البيانات غير المعلنة حول الطلب الأجنبي قد تسببت في تجاوز الولايات المتحدة لحدود ديونها في عدة مناسبات.
تحوي مذكرة داخلية بتاريخ أكتوبر 1976، تفاصيل قيام الولايات المتحدة بطرح 800 مليون دولار للإقراض في مزاد علني. في ذلك الوقت، تقدم اثنان من البنوك المركزية مجهولة الهوية لشراء مبلغ إضافي قدره 400 مليون لكل منهما. في نهاية المطاف فقد حصل أحد البنكين على حصته متأخرا ليوم كامل خوفا من تجاوز الحد.
وقد تواصلت هذه الاستراتيجية من السرية حتى بعد التحقيق الذي أجراه مكتب المحاسبة الحكومية في عام 1979 والذي خلص إلى أنه لا يوجد أساس إحصائي أو قانوني للتعتيم. لم يكن المكتب يمتلك سلطة إجبار وزارة الخزانة على تسليم البيانات ولكنه خلص إلى أن «الولايات المتحدة قد منحت التزامات خاصة بالسرية المالية للمملكة العربية السعودية وربما بعض دول أوبك الأخرى».
«سايمون»، الذي كان قد عاد إلى وول ستريت، اعترف في شهادته أمام الكونغرس أن «التقرير الإقليمي هو السبيل الوحيد الذي كان يمكن أن تقبل به السعودية من أجل الاستثمار في النظام القائم».
«وقد كان واضحا أن وزارة الخزانة لن تتعاون مطلقا»، وفقا لـ«ستيفن ماكسبادن» وهو مستشار سابق للجنة فرعية في الكونغرس ضغطت لأجل إجراء تحقيقات لجنة المحاسبة. «لقد شاركت في هذه اللجان لمدة 17 عاما ولم أر شيئا من هذا القبيل من قبل».
اليوم، يقول «بارسكي» أن الترتيب السري مع السعوديين كان ينبغي أن يتم تفكيكه من منذ سنوات، وقد فوجئ بإبقاء وزارة الخزانة عليه لكل هذه الفترة الطويلة. ولكن على الرغم من ذلك، فإنه يؤكد أنه غير نادم لأن الصفقة كانت إيجابية بالنسبة إلى الولايات المتحدة.