النظام العالمي ما بعد كورونا .
إب نيوز ١٣ إبريل
أنس القاضي /
أياً كانت بداية «كورونا»، فالثابت أنه لم يعد مجرد إشكالية بيولوجية تحل بمجرد الوصول إلى العقار، فقد تعاظمت طبيعته السياسية وتوظيفاته، وتعمم دولياً حتى ليبدو حرباً عالمية، مُحدثاً تصدعات دولية من شأنها أن ترسم خرائط جديدة في العالم.
أوجد واقع الرفاهية استقرارا سياسيا في الدول الغربية الأوروبية وأمريكا، وهو اليوم يتهاوى بفعل جائحة «كورونا»، التي تصنع هزات اقتصادية سياسية أخلاقية تسقط المظاهر المتمدنة السطحية، كاشفة عن الطبيعة الحقيقية لهذه الدول ومجتمعاتها ونمط الحياة القائم على المصلحة الفردية.
انتهكت الولايات المتحدة الأمريكية ودول الاتحاد الأوروبي أبرز المبادئ الليبرالية (حرية التجارة والديمقراطية)، بل برزت الطبيعة الرجعية للإمبريالية بشكل عنصري في التصريحات الفرنسية بأنها سوف تجري تجارب علاج «كورونا» على السكان المحليين في أفريقيا.
الطبيعة الاقتصادية السياسية الأخلاقية للدول الغربية، وخاصة أمريكا ودول الاتحاد الأوروبي، جعلتها أضعف في مواجهة «كورونا»، (بخلاف النموذج الصيني الناجح) مما يضعف إمكانية استمرار هذه الأنظمة مستقبلاً دون إحداث تغيرات فيها.
يلعب «كورونا» دوراً في تفكيك التحالفات الدولية الاستعمارية القائمة. وأبرز هذه التحالفات: حلف الأطلسي، والاتحاد الأوروبي. فقد ظل الاتحاد الأوروبي محافظاً على تماسكه الظاهري، حتى جاءت جائحة «كورونا»، لتطرح الأسئلة عن مستقبل الاتحاد، بعد أن دخلت أطرافه في حالة صراع، وإسبانيا وإيطاليا أشد المتضررين وأكثر نقمة عليه جراء خذلانه لهما، فيما تذهب فرنسا وألمانيا إلى تطوير علاقات ثنائية بعيدة خاصة.
يعتقد وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر بأن جائحة «كورونا» ستغير النظام العالمي، ويُشكك بقدرة أمريكا على النجاة من هذه الجائحة كما كانت تفعل في السابق، ويصرح بعمق الانقسامات السياسية فيها وعدم كفاءة القيادة الحالية ومحدودية رؤيتها، ويطالبها بما لا تستطيع القيام به.
رفعت جائحة «كورونا» الستار عن علاقات القوة والتوترات التي كانت مختفية في إطار علاقات النظام الدولي القديمة، لهذا نجد أن الصين تقوم بتمرينات جيوسياسية عبر تقديم الكوادر والمعدات الصحية لتثبت إرادتها في أن تتحلى بالمكانة الدولية التي تعكس تعاظم قوتها، على حساب الانحسار الأمريكي.
الاتفاقيات والمعاهدات التي حكمت النظام العالمي الراهن المتداعي، وحكمت العلاقات بين التحالفات والتكتــــــــــلات الدولية، هــــذه الاتفاقيات التي عكست الواقع الدولي القديم، بدأت تنهار؛ فالنظام الدولي الجديد سيعبر عن العلاقات وموازين القوة الجديدة، وسوف تتطور وتبنى العلاقات بين الدول التي تدخل اليوم في علاقات تعاون وتضامن إنسانية سياسية. ونجد أن أمريكا محدودة التعاون بل عديمة، فستنحسر علاقاتها الدولية، فيما ستتطور علاقات الدول المنكوبة مع كل من الصين وروسيا اللتين مدتا يد العون، ولن يكون هناك دوافع مستقبلية لكثير من دول العالم في التكاتف مع أمريكا في فرض الحصار على خصوم أمريكا في العالم.
كما أن جائحة «كورونا» ستؤدي إلى تغيير في السياسات الدولية تجاه جوانب البحث العلمي الطبي والحقوق الصحية للبشر وتعزيز السلطة المركزية، وستزيد الاهتمام تجاه الكوارث البيئية الأخرى التي تخلقها الحضارة الرأسمالية، وستعود تساؤلات قديمة عن ضرورة بناء اقتصاد عالمي لا يخضع لرحمة آيات اقتصاد السوق الحرة كما هو عليه في الوضع الحالي.
«كورونا» يكشف تعفن حال الدول الإمبريالية الغربية
احتلت الولايات المتحدة المركز الأول عالمياً في جريمة القرصنة الحديثة، التي ما زالت جارية. عمليات القرصنة التي تقوم بها الولايات المتحدة الأمريكية تهدد أهم المبادئ الاقتصادية الليبرالية التي قامت عليها الرأسمالية العالمية، وهو مبدأ «حرية التجارة». وعلى الرغم من أن الاحتكار الذي تمارسه الشركات العابرة للقارات قد انتهك هذا المبدأ الاقتصادي الليبرالي، إلا أن القرصنة المباشرة التي تحدث اليوم في العالم الغربي هي أكبر ضربة لهذا المبدأ الاقتصادي، وتتجلى في صورة وقحة لا يحتملها العالم الغربي.
فالعالم الغربي المنافق يقبل أن يتم انتهاك المبادئ ما دام المتضرر هي الدول شبه المستعمرة، لا الدول الغربية ذاتها. والاتهامات بالقرصنة على اللوازم الطبية طالت العديد من الدول الغربية، من بينها تركيا وأمريكا وفرنسا والسويد والتشيك، ضمن المنافسة الدائرة لتلبية الاحتياجات الطبية لمواجهة جائحة «كورونا».
إلى جانب القرصنة جاءت قرارات بنزع الأكسجين عمن تجاوزوا الـ65 من العمر، والتسابق على السلع الطبية والغذائية، وارتفاع نسبة شراء الأسلحة الشخصية في الولايات المتحدة، وسحب المعدات الطبية من دول موبوءة دخلت مرحلة الكارثة كإيطاليا وإسبانيا.
إن هذه الحقائق والسلوكيات تعيدنا إلى التشخيص الدقيق الذي جاء به المفكر الروسي فلاديمير لينين سنة 1916، في كتابه «الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية»، حيث يقول: «الإمبريالية من الناحية السياسية هي بوجه عام نزوع إلى العنف والرجعية. هي الرجعية على طول الخط في ظل جميع النظم، ويشتد بوجه خاص الظلم القومي الساعي إلى الإلحاق، أي الاعتداء على الاستقلال الوطني. إن المقارنة مثلا بين البرجوازية الجمهورية الأمريكية والبرجوازية الملكية اليابانية أو الألمانية تظهر أن هذا الفرق السياسي الهائل يضعف لأقصى حد في عهد الإمبريالية، ليس لأنه كان بوجه عام قليل الأهمية، بل لأن القضية في جميع هذه الحالات قضية برجوازية تتسم بسمات طفيلية واضحة».
واقع الرفاهية أوجد استقراراً سياسياً نتيجة تبرجز عمال ومجتمعات الدول الأوروبية وأمريكا من فائض المال المنهوب من بقية الشعوب. هذا الواقع يتهاوى اليوم بفعل مطرقة «كورونا» التي تحدث هزات اقتصادية سياسية أخلاقية تزيل المظاهر المتمدنة السطحية كاشفة عن الطبيعة الحقيقية لهذه الدول ومجتمعاتها.
الطفيلية كسمة جوهرية للإمبريالية والنزعة العدوانية تجاه الشعوب والرجعية السياسية على طول الخط كمحدد رئيسي للعلاقات الدولية، وزوال الفوارق بين الدول الإمبريالية، سواء كانت جمهورية أم ملكية، مختلف هذه السمات تجسدت في واقع اليوم في سلوك الولايات المتحدة الأمريكية ودول الاتحاد الأوروبي، فهذه الدول تجاوزت المبادئ الرأسمالية التي وضعت قبل تحول الرأسمالية إلى إمبريالية احتكارية، مبادئ حرية التجارة والديمقراطية، بل برزت هذه النزعة بشكل عنصري في التصريحات الفرنسية بأنها سوف تجري تجارب علاج «كورونا» على السكان المحليين في أفريقيا.