يوم في الجبهة .
إب نيوز ١٥ مايو
د_أسماء الشهاري
_4_
استمر السير بنا في الصحراء بعد ذلك على متن الشاحنات حتى وصلوا بنا إلى إحدى المواقع العسكرية الجديدة حيث أنزلونا هناك. كان عددنا حينها خمسة ولم نعرف أين هم بقية من كانوا معنا على متن الشاحنة، و أين ذهبوا بهم..؟!
وأنا في هذا الطريق الجهادي لا أعرف ماذا أحكي عن رباط اليدين وكيف أصفه لكم؟
كان عبارة عن سلك كلما تحرك الشخص يشتد أكثر وكان من أكبر وسائل العذاب، كأنّه قطعة من الجحيم..!
كنّا نشعر أن أيدينا تكاد أن تتقطع، وكم كنّا نصرخ من شدة الألم الذي لا يُحتمل ولا يُطاق. وأثناء كل ذلك كنّا نترجاهم ونتوسل إليهم أن يقطعوا أيدينا..! تخيل أن يصل بك الحال إلى أن تترجاهم أن يقطعوا يديك من شدة الألم ونقول لهم: اقطعوها سيجزيكم الله خيراً..!
كان ذلك الرباط من الضباط الإماراتيين، حيث أن أيدينا كانت قد تحولت من اللون الأزرق إلى الأسود بسبب نقص الدم والأكسجين عنها وكنّا نشعر أنه سيصيبها الشلل..!
في هذا الموقع تركونا عند حارس كبير في السن والذي لا نستطيع نسيانه والدعاء له كلّما تذكرناه.
كان ممن لا زالت فيهم النخوة اليمنية و الإحساس الآدمي، فعندما أنزلونا من الشاحنة وذهبوا، كان يستمع إلى صراخنا من عذاب رباط الأيدي، ويقول لنا: أنه ليس بيده حيلة. لكنه بعد ذلك لم يستطع التحمل أكثر فذهب ليتصل بهم لكي يستأدنهم، فلم يردوا عليه، فما كان منه إلا أن فك لنا أربطة اليدين والعينين. لكنّه أبقى قيود القدمين.
كانت يداي على وشك الشلل وظلت متأثرة بهذا الرباط لأشهر عديدة فيما بعد، لم أبكي من شدة الألم سوى من هذا الرباط اللعين الذي قام بوضعه أحد الشياطين..!
وبعد أن فكّ لنا أمر بإحضار الغداء وكان كريما جداً. وبعدها أدخلنا لنغتسل بالكامل وقمنا بأداء الصلاة بعد ذلك.
كم شعرنا بالسعادة لهذه المنحة الإلهية و الهدية الربانية الغير متوقعة..!
لكنه اعتذر منّا بعد ذلك، وقال لنا: هذا أقصى ما أستطيع مساعدتكم به، فقلنا له :كتب الله أجرك، ودعينا له دعاءاً كان من القلب.
رجع الضابط الإماراتي اللعين في وقت المغرب، وكانت أول مرة نراه بعد أن قام بعصب أعيننا. رمقناه بنظرات لا يعلم قوتها وحرقتها سوى الله.
وقال لي أحد الزملاء أنه يفكر في قتله و سيحاول ذلك حتى لو قتل بعدها مباشرة..!
فقلت له: احتراماً لهذا الرجل لن نفعل. أي العجوز الذي أكرمنا.
قام ذلك الحارس الكبير في السن بإرجاع أربطة الأيدي والأعين لكل منّا.
تمت إعادتنا مجدداً إلى الشاحنة لكي نواصل السير في طريقنا التي لا نعرف متى ستنتهي؟
قال لي أحد المرافقين: أنت تريد الجنة، صحيح؟ فقلت له:نعم..
رجعت بي الذاكرة قليلاً إلى ما قبل التحاقي بهذا العمل المقدس حيث لم أكن أكثر من شخص عادي يذهب إلى عمله في النهار و يمارس بقية حياته الاعتياديه. ولم يكن يخطر ببالي حينها أني سألاقي ما ألاقيه الآن. لكنني أشعر بالسعادة والطمأنينة لاختيار الله لي لهذا العمل العظيم. ولأكون في مواجهة مباشرة مع هؤلاء المسخ الشياطين.
كنّا طوال هذه الثلاثة الأيام نترقب فقط متى سيذبحوننا. حيث كنا على يقين أن مصيرنا فقط هو الذبح ولا شيء آخر، ولكم أن تتخيلوا حال الشخص وهو ينتظر الذبح في كل دقيقة لهذه المدة؟
بعدها قاموا بأخذنا إلى مكان فيه ضجة كأنها مكائن خراطة، وما كان مني إلا أن ظننت أنهم سيفرموننا هنا ولم أشك في ذلك.!
قاموا بنقلنا من الشاحنة وبعدها استوعبت الصوت بأنه صوت طائرة والتي نقلتنا فيما بعد إلى سجون العدو السعودي في خميس مشيط بعد أن تم بيعنا من مرتزقة بلادنا إلى الغزاة، كُلاً بسعره وحسب التفاوض. و ذلك حتى يقايضوا بنا أسراهم.
وهناك بدأت قصة الأسر..
طوال تلك الأيام والتي عانينا وتعذبنا فيها عذاباً شديداً لم يكن يخطر ببالنا للحظة أن مصيرنا هو الأسر، وكان الذبح هو كل ما نفكر فيه.
لبثت في الأسر طوال ستة أشهر. عانيت فيها ما عانيت ولقيت فيها من العذاب والألم ما لقيت. لكن رغم كل شيء وعلى الرغم من كل الأحداث والمواقف التي عايشتها و رأيت بأم عيني الأسرى المجاهدين يعايشونها إلا أنها لم تكن مطلقا بعذاب
وقسوة وألم تلك الأيام الثلاثة في الصحراء..!
طوال الستة الأشهر في سجون العدو التقيت بالكثير من الأسرى المجاهدين لكنني لم أحظى بأي فرصة لأقابل صديقي العزيز أبو الأشتر ولو حتى للحظة واحدة، والذي علمنا أنه وقع في الأسر أيضاً بعد ذلك، و عندما حصلت عملية تبادل الأسرى والتي كنت ضمنها لم يكن اسمه بين الأسماء. حتى أسرته وأقربائه تعبوا كثيراً ليعرفوا أي شيء عنه، لكنهم لم يفلحوا في ذلك..
آه..كم تتوق روحي للقياه..
هل تعرفون من أين أتحدث معكم الآن؟
من أرض العزة والكرامة.
نعم. لقد عدت إلى ساحات الوغى وإلى ميادين الشرف والبطولة فقد أصبحت لي نفس حرة توّاقة لم تعد تقوى على العيش بعيداً عن تلك الفيافي والقفار فقد أصبح بينهم قصة عشق لن تنتهي إلا بإحدى الحسنيين.
حتى روحي لم تعد حبيسة هذا الجسد، كأنَّ لها جناحين تحلق بهما في ربوع وطني
الغالي الذي هو أغلى من أهلي وروحي و نفسي، وترتفع بهما عالياً فوق تلك الجبال الشاهقة، هناك فقط يحلو لها العيش إلى جانب أولئك الأحرار الشرفاء الضراغيم. لم تعد تطيق مفارقتهم، ولم تعد عيناي تكتحلان بأجمل من رؤية شموخ وبهاء طلتهم.
وكيف لمن ذاق تلك الروحانيات والعناية الإلهية أن تهنأ لنفسه العيش بعيداً عنها بعد ذلك.!
و سيظل باذلاً مضحياً في سبيل الله والوطن حتى يرفع راية النصر المجيد أو يرقى إلى العلياء شهيداً.