من المحيط الهادئ حتى جبل طارق الصين وحلفاؤها يعتلون عرش العالم..!
.
إب نيوز ١٩ يونيو
محمد صادق الحسيني*
كلّ ما يدور من حولنا يؤكد بما لم يعد قابلاً للشك او التردّد بأنّ مركز ثقل العالم ينتقل من الغرب الى الشرق..! وانّ محور هذا الانتقال هو العلوم التي بدأت تهيمن عليها وتتقنها كلّ من الصين وروسيا وإيران، فيما لا تزال أميركا هيكلاً ضخماً، لكنها لا تكاد تملأ جوفها إلا أوهام القوة ومحدوديتها…!
وهاجس الصين هو الشبح الذي يطارد في ما كان يسمّى يوماً الدولة الأعظم في العالم…!
وإليكم مسار هذا التحوّل التاريخي بالوقائع:
لا بدّ لأيّ محلل موضوعي ان يعود الى الجذور البعيدة، لأيّ أزمة تظهر في العلاقات الدولية في وقتنا الحاضر، وذلك من أجل سبر أغوارها، والوقوف على مدى عمق هذه الأزمة، واستشراف احتمالات تطورها، والاستعداد للتعامل مع هذه التطورات والتداعيات، بشكل يخدم المصلحة العربية العليا، وفي مقدّمتها القضية العربية المركزية، التي هي قضية فلسطين.
انّ الأزمة التي نعيش فصولها منذ أشهر، بين الولايات المتحدة والصين الشعبية، وما تخللها من حرب تجارية واقتصادية وتكنولوجية وعلمية وسياسية وغير ذلك ضدّ الصين الشعبية، لم تظهر الى العلن منذ انتشار فيروس كورونا في مدينة ووهان الصينية، بداية هذا العام، وإنما يعود تاريخ انطلاقها الى زمن أبعد بكثير.
فمنذ إعلان ضابط البحرية والخبير الاستراتيجي البحري الأميركي، ألفرِدْ ثايَر ماهان (Alfred Thayer Mahan) عن استراتيجيته لفرض الهيمنة الأميركية على العالم، في أواخر القرن التاسع عشر (توفي سنة 1914)، والتي استند فيها الى انّ الوسيلة الأفضل، لفرض هذه الهيمنة، هي نشر الأساطيل الأميركية في بحار ومحيطات العالم والسيطرة عليها، مبتعداً بذلك عن استراتيجية مونرو، التي كانت تركز على/ أو تدعو إلى/ بسط السيطرة على الأميركيتين فقط.
وقد نفذت الولايات المتحدة هذه الاستراتيجية، منذ سنة 1907، عندما قرّر الرئيس الأميركي الجمهوري، ذو الأصول الهولندية، ثيودور روزفلت الذي انتخب رئيساً سنة 1904، إرسال حملة بحرية عسكرية أميركية، تضمّ العديد من البوارج الحربية، في جولة حول العالم. هذه الجولة التي شكلت تدريباً عسكرياً حياً لمشاركة الولايات المتحدة، بجيوشها البحرية والبرية، في الحرب العالمية الأولى ومن ثم في الحرب العالمية الثانية، التي أدّت بنتائجها الى فرض الهيمنة على كامل بحار أوروبا و«الشرق الأوسط» وجنوب شرق آسيا، ايّ بحار اليابان والبحر الأصفر وأجزاء من بحار الصين وغرب المحيط الهادئ. إلى جانب إقامتها عشرات القواعد العسكرية، البحرية والجوية والبرية في كلّ البلدان، التي «حرّرتها» أي احتلتها خلال تلك الحرب، سواءً في غرب أوروبا او في جنوب شرق آسيا.
وبقيت الولايات المتحدة، ورغم تطور الاتحاد السوفياتي وقواته البحرية وتصدّيها للبلطجة البحرية الأميركية، في كثير من بحار العالم، خاصة في البحر المتوسط، في مواجهة الأسطول السادس الأميركي، منذ أواسط خمسينيات القرن الماضي، أو في غرب المحيط الهادئ في منطقة جزيرة غوام، القريبة نسبياً من الساحل الجنوبي الشرقي لروسيا، حيث ميناء ڤلاديڤستوك المطلّ على بحر اليابان، أو في منطقة بحر الفلبين، إلى الجنوب من بحر اليابان، علاوة طبعاً على وقوف الأساطيل السوفياتية بالمرصاد، لأساطيل الولايات المتحدة في بحار أوروبا والمحيطات الواقعة في غرب وشرق الكرة الأرضية، نقول رغم ذلك فإنّ الولايات المتحدة بقيت، تُمارس سياسات الهيمنة نفسها، بواسطة القوة العسكرية، حتى بعد هزيمتها المنكرة في حرب فيتنام، سنة 1975، وفشلها في احتلال كامل شبه الجزيرة الكورية، إبان الحرب الكورية 1950 – 1953، ونجاح الاتحاد السوفياتي والصين الشعبية في حماية جمهورية كوريا الديموقراطية (الشمالية) من الاحتلال الأميركي، وبقائها شامخة في وجه هذا الاحتلال حتى يومنا هذا.
وهذا يعني أنّ العقيدة العسكرية الأميركية العدوانية لم تشهد ايّ تغيّر على جوهرها، بل انها شهدت بعض التغييرات على تكتيكات وأدوات تنفيذها، على الصعد الإقليمية والدولية. وفي هذا الإطار قامت الولايات المتحدة، باختراع حجة الإرهاب، بعد تفجيرات نيويورك سنة 2001 وشنها حرباً على أفغانستان، لا زالت دائرة حتى اليوم، ثم حربها الأولى والثانية على العراق واحتلاله وتدمير الدولة العراقية، وبعد محاولتها، عبر قاعدتها العسكرية المسماة «إسرائيل»، تدمير المقاومة في لبنان (حزب الله) سنة 2006 وفشلها في ذلك، ومن ثم اختراع ادوات جديدة، خدمة لاستراتيجية الهيمنة الأميركية واقامة حائط صدّ امام جمهورية الصين الشعبية، يمتد من جزيرة غوام شرقاً وحتى جبل طارق غرباً، منعاً لاستمرار تطور الصين الاقتصادي وتوسيع تعاونها مع هذا الفضاء الجغرافي والديموغرافي الواسع.
ولكن الصين الشعبية وروسيا الاتحادية لم تكونا غافلتين عن هذه المخططات الأميركية واهدافها وعواقبها التدميرية على العالم، الأمر الذي دفعهما، منذ حوالي عقدين من الزمن الى إطلاق مشاريع استثمار عملاقة، في العلوم والمعرفة والتكنولوجيا، وهي المشاريع التي أوصلت الدولتين الى مستوىً متقدم جداً، سواءً في الصناعات العسكرية أو في الصناعات الالكترونية الدقيقة المتعلقة بقطاع الاتصالات بشكل خاص. وهو القطاع الذي يتيح المجال لمن يملك التفوّق في صناعاته المختلفة، وهي الصين وروسيا وإيران حالياً، أن يكون له الدور الطليعي في التطور الاقتصادي والتحول الى القوة الاقتصادية الأولى في العالم.
ومن الجدير بالذكر أنّ ما نقوله ليس دعاية مؤيدة للدول المذكور أعلاه او انحيازاً سياسياً. لها وإنما هو تحليل للواقع الذي نعيشه والأسباب التي أسست لتطوره. فالولايات المتحدة قامت، خلال العقود الثلاثة الماضية، بإنفاق ما يزيد على ثلاثة تريليونات دولار على الحروب وشراء السلاح (البنتاغون تشتري)، بينما لم تنفق الدول الثلاث، المذكورة أعلاه، اكثر من تريليون دولار واحد على التسلح واستثمرت بقية مواردها في التطوير العلمي والتكنولوجي، والاقتصادي بالنتيجة.
وعوضاً عن ان تتعظ واشنطن من هزائم مشاريعها وسياسات الهيمنة التي اتبعتها، عبر العقود الثلاثة الماضية بشكل خاص، عمدت، وبعد تولي ترامب رئاسة الولايات المتحدة، الى الإعلان عن استراتيجية أمنية أميركية جديدة، سنة 2018، مكونة من 14 صفحة وصادرة عن البنتاغون، أسمتها: استراتيجية الولايات المتحدة الأميركية للدفاع الوطني.
وقد حدّدت فيها نصاً أنّ الاولوية، في هذه الاستراتيجية، تتمثل في مواجهة الخطر الداهم، على الولايات المتحدة، ومصدره الصين وروسيا وكذلك التصدّي للخطر المحتمل، من قبل الدول «المارقة» مثل كوريا الشمالية وإيران، وهو الأمر الذي يجعل من الضروري الاستثمار (زيادة الاتفاق العسكري) في تطوير القدرات العسكرية الأميركية اللازمة لبلوغ تلك الأهداف (التصدي للخطر الروسي الصيني الداهم والخطر الكوري الإيراني المحتمل).
وهذا يعني، في تقديرنا، أنّ جوهر هذه الاستراتيجية الجديدة يتلخص في ما يلي:
1 ـ تخلّي الولايات المتحدة عن استخدام أكذوبة الإرهاب، داعش وغيرها، التي اخترعتها وأدارتها واشنطن طوال العقد الماضي، والتركيز او اختراع خطر جديد تسميه هذه الاستراتيجية بالخطر الصيني الروسي الداهم وذلك الكوري الإيراني المحتمل.
2 ـ إن هذه الاستراتيجية ستقود، وبشكل منطقي وموضوعي، إلى تخلي الولايات المتحدة عن دول النفط العربية، خاصة في ظل انعدام قيمة هذه المادة حالياً وانتهاء دورها الاستراتيجي (الوظيفي) في السياسة الأميركي، الذي استمر قرابة قرن من الزمن.
3 ـ وغنيّ عن القول طبعاً إن هذا يعني، وفي ظل الأزمات والمآزق الأميركية الناجمة عن انتشار فيروس كورونا، ان سحب القوات الأميركية، من المنطقة العربية وافغانستان، وكذلك تخفيف الانتشار العسكري الأميركي في مناطق اخرى من العالم، قد أصبح حقيقة واقعة برسم التنفيذ، حتى لو تأخر ذلك بعض الشيء.
4 ـ ان قيام الولايات المتحدة بنشر ثلاث حاملات طائرات، هي رونالد ريغان وثيودور روزفلت ويو إس إس نيميتس، تحمل كل منها 60 طائرة حربية، حسب تصريح قائد قيادة المحيط الهندي والهادئ، الجنرال ستيفين كولَر (Stephan Kohler)، لا يتعدّى كونه استعراض عضلات لن يؤدي حتى الى استفزاز الصين، التي تعلم تمام العلم أن هذه التحركات تهدف الى تعويض العجز والتراجع الاستراتيجي، الذي تعاني منه الولايات المتحدة، سواء. على الصعيد الاقتصادي او الصعيد العسكري.
5 ـ انه، وكما يقول الكاتب، الأميركي الاسرائيلي سيث فرانتس مان Seth Frantzman، في موضوع نشره على موقع الجروزاليم بوست الإسرائيلية وكذلك على موقع ناشيونال ريڤيو (National Review) بتاريخ 25/5/202، أننا وعلى عكس ظهور الولايات المتحدة الأميركية كقوة عظمى، قبل مئة عام، فإن جائحة كورونا وما سينتج عنها من كوارث دولية، ربما ستضع الاستراتيجيين الأميركيين في مواجهة احداث، هم غير مهيأين لمواجهتها، ستفضي الى جلوس الصين على عرش قيادة النظام العالمي.
ويتابع الكاتب قائلاً: إذا ما كانت الولايات المتحدة وحلفاؤها جديون، في حماية النظام الليبرالي، فإنّ عليهم التحرك بسرعة، وإلا فإننا سنرى، خلال 25 سنة، متغيّرات سريعة شبيهة بتلك التي حصلت قبل مئة عام. ولكنها هذه المرة لن تنتهي بسيطرة الولايات المتحدة، وإنما ستنتهي بجلوس الصين الشعبية وروسيا وإيران في مقعد القيادة.
يهلك ملوكاً ويستخلف آخرين.
بعدنا طيّبين قولوا الله…