أجيد الحياة مع نفسي طويلاً
إب نيوز ٢٧ يونيو
عفاف البعداني
“الجزء الثالث”
إلهي لم تقطع لساني ولكن لم أعد أجيد ترتيب الكلام ، لقد هزمت في قارعة الحروف ولم يجدني أحد؛ حتى أكلني الصمت في أحد اﻷزقةوانتهى من أمري ولم يبقَ من حديثي إلا فتات بوح سقط سهوًا في عنق الأرض الممدة فأخذها عصفورٌ حر متوجه إلى مكتبة الرحيل.
إلهي إني انطفى بردًا وأحترق ضوء على طاولة المساء، تدب في روحي أرقام مولفة بالحديث ولكن أبقي قلمي في مكانه، وأقفل أبواب الكلام وأراقب خفقات النجوم بصمت، اقترب من ألوانها المتلألئة لأعرف قصة قوس قزح المتوهج في عينيهم البعيدة، لاتخيفني حاشية الظلام ولا يقلقني ريب المكان وينظم إليّ طائر الزمان، معجبٌ بمقابلتنا المتراحمة أنا وخفقات النجوم الساهرة،
محاولاً قرءاة حروفنا المختبئة والمختزلة خلف الكلام، ولكن فجأة تغيرالطقس وقام من مرقده بتفريغ مع الظلام والضباب ليغطي خفقات النجوم ،وشاغبني بتيارات باردة ،رمتني بقرب من النافذة ، تكتل شعوري دفعة ودفعة؛ حتى سقط الشعور مغمي عليه قُبيل شرفة هوائية وهو بلامعطف ، غاب الشعور عن وعيه وهو لايعرف، وأُغمي عليه بعيدًا عن دفء المدخنة ،واحتضن الجسد بقية صلاوته بشعوره المتعب وطقسه البارد ،وغابت النجوم خلف ضباب سمرواي واستقال البوح في محراب الجسد الصامت،وأتى الصباح وقرأني عصفوري صفر مؤقر من جهة اليسارليس له قيمة بالحديث، ولكن من يعي أن في كُنهي تنام كل قواميس القيم ،وكيف أخبره أني من دونت رواية المساء الخافق.
إلهي هل تعلم وأنت العالم أني ترعرعت في العمق والنظر خلف مرئيات الطبيعة ،عشقت الخيال وعشت فيه والفت سمواته المتكوكبة، والآن في محطة الواقع أقف أستقبل سهوم من الحقيقة دفعات متتالية ،لا فواصل خيالية بينها ،كلها تصريحات موجزة من عجوز حكيم،جاء من عالم اﻷفلاك أراد بي خيرًا في معزل عن ضجيج البشر، وأرجعني أرضًا من كواكبي الخيالية، أنزلني وسخر من لعبتي المفضلة وهي لعبة الخفية واﻹختباء من عالمي واللجوء إلى عالم الفضاء، خلع مني قناعي وقال :لي انظرِ يامحاورة انظرِ من هنا من حيث أقف أنا من حيث الحقيقة والواقع،ومن حيث نظرية التوازن الفكري ،وعلى سطح الأرض وبُعد المكان عليكِ أن ترجعي ،عودي من حيث اتيتي ،يازائرةالفضاء،
أيها الحكيم لاتقل :هذا لقدسمئت من هناك، ابقيني هنا عندكم في العلو السمائي حيث الأفلاك الرابية ، والضباب والطيور المهاجرة ،لا أريد العودة إلى عالمي هل تعي ماأقول،لا…… يامحاورة عليك أن ترجعي وتألتفي كينونة البشر الواقعة بين الشيطانية والملائكية،عودي فليس هنا مكانك وليس معي زمانك،عودي من خيالك إلى وأقعك، ولاتدعِ الخيال المفرط أن يضحك عليك ،حسنًا !!ليس لدي ما أجاري به فراسة الحكماء،
ولكن لي طلب قبل الرحيل، ماهــــــو؟؟؟؟؟ لاتنساني من زيارتك ومن كلامك الفياض، الذي قد لا أجده عند أي أحد،و ساعود كما قلت إلى عصري ومكاني : غادرت ،ورجعت ، من عالم الفضاء ، وماهي إلا هنيهات، وابتعدت من فلك الحكيم الذي كان يرى من فلكه ماشاء له القدر وما مد به النظر ،وبت أرى العالم عن قرب فضيع كحداقتراب العين من الشمس في منتصف اليوم، اقترب من كرتنا اﻷرضية لاتخلص من الخيال المقفع ولكن ماالعمل فالعيون تحترق قربًا من ضوء الحقيقة،ومازلت منتظرة زيارة سيد الفضاء رغم أني للتو وصلت من هناك !!!!
إلهي لقد كسرت عكازتي اﻵخيرة ولم أعد أملك أي شي أدافع به عن صباي الرحيم لقدسِيْقت إنسانيتي إلى رفيف المشنقة، و فقدت رغبة الحديث والمدافعة لم أعد انتظر دليلاً وأضحًا ولسانا طليقا ؛كي يخرجني من زنزانة التلبد ،لم أريد أن تعافى عكازتي اﻵخيرة فقط أريد أن أحتضن شتاتي وأُلفها بجسدي المهترى وأ بتعد وأعيش فقط بعيدة عن كل شيء، وحده الخيال والفضاء من يحتمل شذوذاتي العارمة،
إلهي لقد فقدت القدرة على مداومة الجروح وأصبحت طبيبة عاقة ،كنت أجيد خياطة الأرواح المشقوقة بحدوس كلامي ،وأداويها بعشبتي النادرة واﻵن فقدت مهنة التخدير وصار القريب والعابر والغريب يحيب يميل يكتوي وجعًا ويحترف لهيبا و لايهزني نحيبه أمامي، ربما نسيت كيف يضع العطب برفق وكيف يلف الشاش بحذر ،كنت أعتقد أني طبيبة مهارة ،ولكني اليوم أعتزل مهنة الطب وأدعها لغيري لأني أقفلت جرح العابرين وتجاهلت شظايا حادة في قلوبهم المريض ، ذهبوا بجرحوهم المفتوحة التي لم تغلق، وتشاجرت بعدهم كل حكاياتي وصرت ضحية ضميري الجديدة.
إلهي ،أريد فقط أن أذهب وأرحل بسلام ،ولن تحضى ذاكرتي بلوم أي أحد ، ليتركني العالم كماتركته، ليتركني الناس جمة واحدة، فأنا كاتبة متفردة ومختلفة أجيد الحياة مع نفسي كثيرًا ،ولا أجيد الحياة معهم طويلاً، ليرحل عني كل من حولي فلست أجيد مجاملة الحروف وتنميق اﻷحاديث ، وترتيب المناقب، لاأحسن التشدق بما لا أراه وما لا أعرفه ،ولا يسعني مدح الغراب الكاذب، ولا أرتبك من عويل الذئاب المرتعدة، كل مافي اﻷمر أني طائر شارد في كنف الوضوح ،كل مافي اﻷمر أني أحيا على أرض رحيمة هزيلة،تدعو الله وتثق بالله كثيرًا، وترجو أن تكون أسطورة تخلد في معالم الواقع والحاضر في قلب التأريخ الحي ،حتى لو رحلت الروح إلى مأمنها السماء ،ورفعت الجلسة .