من مذكرات شهيد “جرح وعزيمة وإيمان “
إب نيوز ٦ يوليو
أشجان الجرموزي
أندلعت الحرب في بقاع الأرض بلا موعد ،
لم يأتِ هدهد السلام هذه المرة بهذا النبأ العقيم ، لربما هده المصاب وهو في جادة طريقه إلينا .
فطالت الحرب ولم تأزف بالرحيل ، ومن هنا زفت الأرواح بالمئات ،استقت الأرض وفاح عبيرها من فيض دماء أبطالنا وكأنه الرحيق ، وكأن حجارة الأرض صيرت لعقيق ، ظلت جراحهم تحكي ماعجز عن الشرح والتفسير، إنه الجرح الذي يسمو على مر الأزمان مهما طال المدى ..
أبطال مضوا على الدرب ومانأوا رغم الحمل الثقيل ووعثاء المسير الطويل ، ولأن عشق الشهادة قد توغل في أعماقهم ونبت وتشرب في قلوبهم ، لم يمسهم نصب من مسير ، لم يبالوا بمشاق الحروب في هذه الرحلة الخالدة، فهم دون سواهم عظماء الماضي والحاضر والمستقبل وهم إكليل كل مسار ووقود وعزيمة كل حر لايقبل الضيم..
كوهج شمس ساطعة تخرج حكايا من قلب حنون نزف آلاماً من فراق فلذة الكبد لكنه بالله صابر ومحتسب، جنة على الأرض كانت هي الداعمة الرئيسية بعد الله في النفير والدافع الأكبر لانطلاق المجاهدين الأبطال بدعواتها وتحفيزها وسؤالها المستمر عن مايمكن تقديمه لدعم الجبهات
تلك الأم الصابرة المحتسبة الأجر من الله فقد أصبحت أماً لشهيد وجريح ومجاهد في أرض المعركة ينكل بعدوه أشد تنكيل
ومن عميق الجراح والفقد والأشواق تحكي بعضاً من ذكريات شهيدها وذلك الجسد الطاهر الذي أثخن بالجراح في أكثر من موقف وأكثر من جبهة …
كان ولدي الشهيد /محمد عبدالله علي جعدل “أبو العز” مجاهداً عظيماً لم يتوانى لحظة عن المضي في سبيل الله فقد كان حسن الخلق ومحبوباً بين اخوته وبين الناس وباراً حنوناً بي وبوالده عاشقاً للجبهة مستمداً قوته وعزيمته من ثقته الكبيرة بالله تعالى ومتيقناً من وعد الله لأنصاره بالنصر أو الاصطفاء الإلهي ..
تعددت مواقف شهيدي أبو العز سلام الله عليه فكانت له عدة بصمات في عدة جبهات خصيصاً جبهة صرواح
ذات مرة كان هناك زحفاً قوياً على المجاهدين وتحليق، حينها تحاصر أحد القناصين وقد جرح ولم يجرؤ أحد على المجازفة والمضي في إنقاذ القناص، إلا أن ولدي أبو العز ورفيق آخر له ، قررا المخاطرة بحياتهم لإنقاذ رفيقهم القناص متجاهلين نصائح بقية الرفاق بعدم الدخول للأنقاذ لخطورة الموقف، لكن إصرارهما أكبر من أي حديث….
تقدما الرفيقين ببسالة وشجاعة إلا أن تحليق الطيران ودفعات الصواريخ التي يلقيها لا تدع لأحد مهلة للتفكير فيما سيقدم عليه وكيف سيجتاز هذه الغارات الجوية، فما كان من ولدي أبو العز إلا أن أشار لرفيقه أن يذهب بعيداً عنه في جهة مقابلة له تحسباً لوقوع أي غارة عليهما، فذهب رفيقه بعيداً عنه بصعوبة بالغة وحاولا التقدم لإنقاذ رفيقهم القناص وعندما أصبحوا على مقربة منه فإذا بغارة ترمي شررها عليهم ….
بتنهيدة عميقة وكأن ماحدث يعرض أمام عينيها رغم عدم رؤيتها لذلك الحدث تردف والدة الشهيد أبو العز : كان محمد سلام الله عليه ورفيقه قد تأثرا كثيراً من هذا القصف العنيف فرفيقه أصيب بنزيف داخلي وولدي لم يستفيق إلا وهو يرى نفسه على إحدى الأشجار وملابسه ممزقة ويرثى لحاله حاول التحرك حتى استطاع إسقاط نفسه من على الشجرة تلك، كان الطيران المعادي لايزال يقصف تلك المنطقة، حاول ولدي أن ينادي رفيقه ولكن لامجيب كان يراه لايقوى على الحركة
فقرر الزحف إلى حيث بقية الرفاق لطلب الاسعاف ، زحف رغم مابه من جراح حتى استطاع بعد جهد جهيد الوصول إلى مقربة من رفاقهم وكان الطيران لازال محلقاً فنادى رفاقه بأعلى صوت استطاع إخراجه من حنجرته رغم الآلام والدماء التي تغطي جسده بفعل الشظايا أخبرهم بأنهم قد أصيبوا وهم يحتاجون للإسعاف
فأخبروه رفاقه على الجانب الآخر أن يلزموا أماكنهم حتى لايشعر الطيران بهم فيعاود القصف عليهم، هدأوا قليلاً حتى حلق الطيران بعيداً عنهم بعد أن لم يستطع رصد أي تحرك في تلك المنطقة، استطاع المجاهدون الدخول إلى تلك المنطقة بعد رحيل الطيران المعادي وإسعاف رفاقهم الثلاثة، من بينهم ولدي محمد
لتتمرد في تلك اللحظة دمعات هاربة من أحداق تلك الأم الحنونة فتسرع لمحوها وكأن لسان حالها يقول ليس هناك مايستدعي البكاء بل الفخر…
لتكمل برباطة جأش، تم إسعاف ولدي ورفاقه وكانت جروحه عميقة والشظايا تملكت كل منطقة في جسده، كنت أتحسس شعر رأسه فإذا بي وكأني ألمس مزرعة زجاج كانت تملأ فروة رأسه ، كدت أصاب بالجنون لكثرة الافرازات في جسده وكيف أنه يتحمل كل ذلك لكن قابل ذلك بإيمان وصبر ووعي كبير، جعلني أستمد صبري من صبره وأتم علاجه وعاد إلى جبهته من جديد….
وفي ذات يوم أتانا وملامح وجهه تكسوها الصفرة الشديدة فتعجبت وفزع قلبي إن كان أصابه مكروها، فبادرته بالسؤال إن كان قد جرح أو حصل له مكروه، فأخبرني بأنه بخير وليس ذلك سوى إرهاق وأرق بسبب احتدام المعارك في الجبهات، لم أقتنع بحديثه البتة فسألت زوجته حينها إن كان قد باح لها بأي شي، فأخبرتني أن هناك جرح في صدره من جهة الكتف، فصارحته فأخبرني أنه جرح طفيف ولا يستدعي خوفي وقلقي، حتى بعد أن تماثل للشفاء وعاد إلى الجبهة علمنا من بعض رفاقه أنه أصيب في صدره دخل على إثر تلك الإصابة في غيبوبة لعدة أيام وبعد أن أفاق رفض أن يبلغنا أي أحد، كانت دعواتي دائماً ترافقه وترافق اخوته وكل المجاهدين …
وتمضي الأيام وتحتدم المعارك ويبقى أبناءي يؤدون واجبهم المقدس في جبهات العزة والكرامة، وذات مرة وشهيدي محمد ابو العز في محافظة مارب في بني ضبيان كان هو ورفاقه قد تلقوا نداءً من أبناء تلك المنطقة بالذهاب إليهم وتأمين منطقتهم من الأوغاد ولم يعلم مجاهدينا أن أولئك المنادين هم الأوغاد، لبوا النداء واستنفروا كل رفاقهم وذهبوا إلى تلك المنطقة “بني ضبيان” وماإن وصلوا حتى شعروا بحجم المكيدة التي دبرت لهم وحاكوها المنافقين للإيقاع بهم لكن هيهات هيهات أن يخذل الله جنده وأن تغيب الحكمة من أذهان من توكلوا على الله ووثقوا، رأى قائدهم أن الالتفاف كان كبيراً وخطيراً ولا قبل لهم به
فما كان منه إلا أن فكر بحكمة وأمرهم بخلع أحذيتهم “البيادة العسكرية ” وأمرهم حينذاك بالجري إلى أبعد مسافة ممكنة حتى يخرجوا بأقل الخسائر ففعل الجميع ذلك، وانطلقوا حفاة بعيداً عن تلك المنطقة حتى تمزقت جلدة أرجلهم وكانت الدماء تغطيها ولكن لم يستسلموا فقط طلبوا المدد ليصلهم في أسرع وقت وينقلب السحر على الساحر ويتم الالتفاف على أولئك المنافقين بقوة وبسالة ويتم تطهير تلك المنطقة بالكامل دون أي إصابات تذكر بين مجاهدينا الأبطال وكذلك ولدي الشهيد محمد..
عندما كنت استمع لأحاديثه تلك كانت ثقتي بربي تزيد وإيماني يقوى أكثر فأكثر وأدعوا الله دائماً يحفظ المجاهدين من شر الكائدين والماكرين…..
لكن لابد لأي رحلة أن تنتهي حتى تأتي رحلة جديدة ولا بد للعناء أن يزول وفي أخر محطة لمجاهدي الشهيد البطل ركب قطار المنافسة الأقوى والأعنف وقرر قبل الرحيل أن يضع لنفسه بصمة لاتمحى وإن تغير الزمان والمكان واختلفت الأجيال
كان ابو العز سلام الله عليه من المشاركين في العملية الواسعة في وادي آل أبو جبارة في نجران ” عملية نصر من الله ” ليسطر مع رفاقه أروع الملاحم البطولية التي كان الإعلام الحربي يوثقها كل دقيقة وثانية حتى استطاعوا إنهاء العملية بنجاح ، وفي أثناء تأمين كل المناطق التي تم تطهيرها في عملية نصر من الله كان أبو العز يمشي وعدسة الإعلام الحربي ترافقه ليسأله رفيقه المصور : ياابو العز كيف المعنويااات
أبو العز : قوة القوة والعدو منهاااار
المصور : رسالة توجهها للعدو في هذه اللحظة …
أبو العز : مهما حشدتم واستقويتم فلن نتراجع ولن نخاف لأن القتل لنا عادة وكرامتنا من الله الشهادة ….
فإذا بقذيفة هاون تأتي من الاتجاه المعادي
لتحط غدرها على جسد أبو العز الطاهر وتلك الكاميرا لازالت توثق هذا السمو ليسرع رفيقه المصور إليه وكانت روحه لازالت باقية ليخبره رفيقه بحزن عليه سيأتي الاسعاف الأن لاتقلق وأتى الإسعاف ليقلهم وتمر بضع دقائق،،
ليبتسم أبو العز ويقول بصوت متهدج متعب فزت ورب الكعبة
لترتقي روحه محلقة عالياً في السماوات العلا ويرتقي شهيداً إلى جوار من سبقوه
وأصبح أنا بكل فخر والدة الشهيد وزوجته الصغيرة زوجة شهيد وابنته ذات السبعة أشهر أبنة الشهيد ، فنحمدالله حمداً يليق، بكماله وعظمته واصطفائه لخيرة خلقه وهنيئاً لولدي مانال من عظيم العطاء وهنيئاً لنا الفخر بهذا المقام الرفيع…
نسمو في قداسة مانرى ، وفي عظيم تلك القلوب التي تشظت ألماً من الحزن والفراق إلا أنها تتزود بالصبر وتستقي الإيمان والثقة بالله، أمهات لن نستطيع مقارنتهن بأي أحد فهن على الدوام العطاء والبذل والسخاء، دون انتظار المقابل
وهناك نرى الأبطال الذين شع وهجهم فلا نظير لهم ولا منافس فهم في ركب الشهداء
باعوا الدنيا واشتروا الآخرة، واستثمروا موتهم الذي لامحالة آت، بعظيم التضحيات
وتركوا الدار الفانية لينعموا بنعيم الدار الباقية والخالدة، ويلتحقوا بركب العظماء من قديم الأزل فهم الباقين ومادونهم الأموات الهالكين….
قال سبحانه وتعالى ” ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون “…..
#فريق_عشاق_الشهادة