عالمي الصغير تاه في عالمه الكبير .
إب نيوز ٢٠ يوليو
عفاف البعداني
معلم اﻷحياء: حسه نادر ويقظ جدًا ،لدرجة أني لم أجد من يماثله في تلك الدقة إلى هذه اللحظة، لست أبالغ وإنما هي حقيقة لم يكن ماجستيريا ولكن أراهن على أن عقله يفوق كل مفاهيم الدكاترة الجامعيين ،فطانته أشبه بكتاب مزخرف عريق، مفتوح لايبخل على الجميع ببداهته ،وفراسته ، لديه موسوعة ضخمة في معرفة اﻷعشاب وفوائدها وكأنه أب لكل أصناف الطبيعة ،وكأنه صديق يعرف كل أسرار النباتات ،ولكنّ التجاعيد والشيب نبشت عمره بالمرض وتزاحمت عليه بسرعة مبكرة، أجبرته على مسك عكازة كي يقتاد بها السبل وهوفي السابق من كان يقودها إلى مشارق الارض ومغاربها بزعامة ،يقف ذلك المعلم وبيده طبشور أبيض يطقطق ونحن منتظرون ما الذي سيرسمه اليوم ، فعادةً عنصرالتشويق لديه هو مفتاح كل درس.
وماهي إلا ثواني معدودة و أكمل معلمي رسمته ،كانت غريبة جدًا بيضاوية الشكل ،تتوسطها عين واحدة كبيرة وحول العين مسميات جمة، كنت أقول:.. ربما هي مصطلحات مستوحاةمن عالم الجن.
بادر المعلم بسؤاله ماهذه الرسمة؟؟؟ خمنوا… عم الهدوء وأصبحنا نتشارك الكراسي زخم وأسع من الصمت حتى أن الغراب الذي كان يعتاد الجلوس بغصن الشجرة أمام النافذة تفاجئ لماذا اليوم يعم الهدوء في فصلنا الفوضوي، ونحن نحدق فيه وكأننا ننتظر منه سريعًا اﻹجابة،ينفث بريشه موحيا لنا أنه لن يساعدنا أبدا ، وتوصلت إحدانا إلى اﻹجابة الدعابية من أخر الصف، وبصوت رادارته مليئة بالثقة:.. ((نعم وجدتها يامعلم هذه الرسمة “هي مخلوق فضائي مــخزن،هو عاصي والديه أمه غضبت حين سرق المال من معطف أبيه ، فدعت عليه بأن يكن من أشقى أهل اﻷرض”. ))
ساد الضحك،وطار الغراب مقدمًا استقالته الدراسية مبتسمًا لماسمع التخمين ،ضحك معنا المعلم كثيرًا وقال: . . سأطفئ فضولكم طُلابي الرائعين، هوليس كائن بالفضاء كما زعمتم ،كما أنه لايحب القات وليس بسارق أنه آمين على ما أودعه الله ،وعمومًا هذه الرسمة تمثل وحدة تعيش فيكم وداخلكم وأنتم لاتعرفوا شكلها، هي لاتُرى بالعين المجردة ولكنها قائدة ممتازة في أجهزتكم الداخلية ،إنها “وحدة الخلية “وتلك العين هي “النواة” وهي تحمل الشفرة الجينية DNAو RNA ومسؤولة عن شكلكم ،ولونكم ،وطولكم وكل صفاتكم الوراثية ،وتلك التي تحوط النواة هي مادة سيتوبلازمية دبقة ،عضياتها متعدة اﻷسماء ، منها أجسام جولجي، والشبكة اﻷندبلازمية والجسم المركزي وغيرها، وكلها تغذي النواة،ولكن هناك أغشية تفصل النواة عن السيتوبلازم وعضياته؛ لتقوم القيادة المركزية في الخلية،بوظيفتها على أفضل شكل.
يشرح المعلم ،وأنا مصدومة هل يُعقل أن هذه المملكة الغريبة هي أصغر وحدة في جسم اﻹنسان !!كم ياترى من المدن التي لم نكتشفها بعد؟ ولماذا لايُسمع لها ضجيج ولاحرب ماهذا التأديب الرباني ! وماهذه القدرة اﻹلهية التي وضعت في أجسادنا ! ماهذا اﻹعجاز الذي لم أستوعبه! ولازلت إلى لحظتي مصرة أنه مخلوق فضائي ، وتترى اﻷيام والدهشة تتناولني بشراهة وبدون توقف .
ومن تلك اللحظة بدأت أحب كتاب اﻷحياء ؛كونه ترجم لي التركيب الداخلي والوجه المرئي لهذا الأنسان، الذي تقطن فيه روح ونفس مختلفة تماما لاترى بالعين المجردة أيضا أحببت الكتاب ؛كونه فسر الحيثية التصرفية التي يتكيف عليها اﻹنسان بطبيعته الحياتية ،ظليت متعجبة وشاردة الحس أتمعن وأحاول تأليف قصة عن الخلية،محاولة الاقتراب من دورالقوس العصبي المنعكس، الذي يفسر ردود الفعل بإقل من الثانية وكأنه بريد عصبي خارج عن نطاق البشر والشبكة العنكبوتية ، أنظر لشلال الطاقة، وأفكك دورة كربس الكربونية ، وبضياء عليل أحاول إيجاد السيال العصبي، وأعتنقهم جميعا في خمس صفحات مكتضة بالتأويل والشرح، لأعود إليها كلما أضرم بي حب المعرفة ،فمعلمي وأسلوبه في حباكة الدروس،تركا أثرًا بليغا في ذاكرتي للحديث عن قدرة الله في بواطن هذا المخلوق، نعم ;كانت هذه وقفة أسميتها في مابعد رحلة إلى باطن اﻹنسان، هي رحلة سفرطويلة قصدت بها معرفة الله .
تفاقم شغفي وهو يكبركل يوم بطريقة متمردة ،وبرية العيش، يريدأن يعرف كل شي ء ولاأقدر أن أروض ذلك الخيال المسهوب، الذي عكف في البحث وأكتشف بعدها، أن اﻷنسان في داخله عالم مصغر يشبه العالم الضخم تمامًا، وقد يفوقه بطاقته اﻹستياعبية واﻹدراكية .
هذا العالم فيه جزءمظلم وفيه جزءمشرق، فيه طيور مسلمة و خفافيش مظلمة، فيه بحورعواطفها ميتة ،وهناك بحور صفائحها بيضاءوهناك بحور خلاياها حمراء ،فيه منعطفات وحواجز عدة، وكل هذه الحدود والتفاصيل تعيش بمسمى أجهزة،وأنسجة، ومرسومة بداخلك وأنت سيدها الموقر وأنت حاكمها ولوحدك ، ولورجعنا لعنصرالتشبيهي اﻷصل لوجدنا أن العالم تعدد حكامه وتقسمت حدوده ودوله وكل بقعة من بقاع اﻷرض، يحكمها فرد بعينه .
أما أنت أيها اﻹنسان متعدد النوافذ ومتعدد اﻷبعاد والحدود،ولكن تبقى حاكم عالمك لوحدك بسيادة تامة ،وبإذن إلهي، مشرفا هذا المخلوق العظيم (اﻹنسان) بأحسن تقويم على سائر الخلق حسده عليه إبليس وبدأت معركتنامعه منذ اﻷزل .
ولكن لوعدنا إلى السر وراء القدرة اﻹلهية المستودعة فينا لوجدنا أسباب عدة لايمكنناحصرهاكلها ولكن السبب الظاهر واﻷبرز هوحب وعناية ولطف إلهي لهذا اﻹنسان، الذي نفخ فيه من روحه وبالمقابل كلفه مهمة عظيمة وهي الخلافة في اﻷرض .
نتوقف هنا وفي اﻷجزاء القادمة سنتعرف ماذا عمل هذا المخلوق؟ وكيف تعامل مع عالمه الكبير؟ وماهي الحرب العالمية التي أحدثها ؟انتظرونا فبحوزتنا الكثير أيها القارئين .
.