مذهب يمحو آثام العالم
إب نيوز ٢٨ يوليو
عفاف البعداني
نبحث عن زمننا غير المفهوم ،ومكاننا اللا معروف،وفكرنا الغريب، فلانجدهم في قرننا العشريني ،بل نجدهم في زمن قد ولى وذهب بسكك الماضي النائم في مقعد قطار القُدامى ،نجدهم عند مقطوعة كتابية قديمة تشبه تماما صفاتنا الحسية التي لم يقرأها لنا أحد ،وأحيانا نجدهم في نص كاتبهُ قد رحل ولكن ظلت أدبيته حية ليومنا هذا كثورة غسان، وسياسة درويشنا محمود ،وبما أن العودة إلى زمن قد ولى ماهي إلا خرافة في قلوب السارحين، ومسخرة أمام رقائق العاقلين ،ولكنها في نظري مختلفة، و قدتتحقق في عالمي الخيالي الذي يذهب حيث شاء ومتى ماشاء؟
وبينما أنا منهمكة في ولوج القراءة، أبحث عن نفسي وفلسفة الحياة،بين الصفحات وعن شعوري بين الروايات ،فإذا بي أجد ظل ذو جناح طويل يرفرف من بعيد وكأنه يدعوني لمكاني الضائع وزمني المفقود الذي أبحث عنه منذ زمن، مضيت وتسارعت خطواتي تلو اﻵخرى؛ أملاً أن أرى ملاذي المترع بالفراغ، ولما ألم بي التعب وضاق التنفس في رئتيا المنقبضة توقفت على مستراح للطبيعة لأعيد دورة الأكسجين ، وعلى حين أرق ،فقدت أثر للطائر الغريب وكأن مهمته قد انتهت ،لم أستطع المواصلة،وأقمت على صخر مربعية والمفاجأة أنني كنت مطلة على بستان كبير،وكأن التعب هو الحكمة القدرية التي ساقتني إلى هذا المكان وأكد لي بلوغي في هذا المناص أن هناك شيء ينتظرني ،تقدمت ورأيت اسم البستان مكتوباعلى صفيح من لحاء شجرة عظيمة في قلب من اﻹعشاب/ شمس التبريزي… كان هذا الاسم هو البداية لحياة جديدة كنت أتطلع لها، دخلت وشعرت أني قد وجدت ما أبحث عنه وبالفعل قضيت وقتا وأنا في بستان شمس الأدبي الذي كنت أبحث فيه عن نفسي وروحي منذ زمن ،كان هو الحل لكل أسلئتي التي كبرت معي دون أي أجوبة.
لقد كنت أبحث عن الله ليس في الصلاة أو الصوم أو تلاوة القران،بل في أماكن بعيدة الرؤية لا يراها إلا أصحاب البصيرة ،كنت أيقن أن هناك عرش إلهي يتربع في داخلنا المستبين كي يحتوي العبادات ويجعلنا أكثر قربا لله بطريقة صوفية ،ولكني وجدت نفسي وغيري في خضم من العبادات ولكن هناك شيء مفقود في كل مانفعله وهو الإحساس بما نفعله ومن صاحبه، وصرنا كآلة تتبع ريمنت الضمير المجمل وليس له بُدا أخرا في مآرب الحياة ، كوجبة كان ينقصها عنصر أساسي حتى يحلو مذاقها وتصبح رغبة أساسية نواصل به جوع البقاء.
نعم لم أكن أرَ أن الزهرة مجرد نبتة لطيفة تنشر عبق من العبير كي تفتن بها المخلوقات ،لقد كنت أرى فيها حبا لله وكأنها تذكرني بجمال الله الذي لايوصف وعبيرها يشعرني أني قريبة جدًا من الله وكان عبيرها ليس عطرا فقط إنما هو تسبيح يلتقي مع أرواحنا فتتحد وتبقى عالقة في حاستنا الشمية لثواني ،وعندما نتبعد عن الزهرة نفقد عبيرها الذي تغنى بوجود الله.
لم أتفق مع الذين يقولون: ” إن الجزاء من جنس العمل” لو كان هذا صحيح لاندثرنا في أول يوم خرجنا فيه من رحم أمهاتنا لقساوة الحياة وأهلها ولهول ما ارتكبنا ،أدركت أن هناك علاقة أعظم تحوينا بالله على وجه هذه الأرض المقدسة، وهي مقرونة بمعرفة الله عن حب وليس عن خوف.
لقد تعلمت في المدرسة أن هناك جهنم والجحيم ،وهناك جنة ونعيم وحور عين، وأن هناك عذاب القبر وهناك( (حنش)) ثعبان أقرع كبير يقيم عند رأس الذي لايصلون ، وملك الموت يدق أبوابنا باليوم خمس مرات ،وأخر بيت كنا نتدواله في رحى المجتمع (إن لم تكن ذئبا أكلتك الذئاب) مضى زمن من عمري متدينة بعباءة ضيقة أكاد أن أعيش بداخلها ، فجسدي يقف مرغما على ارتدء هذا الثوب حتى أنجو من عذاب الله ولا أكون شنيعة في نظر المجتمع، وفي نفسي أني أحب الله حبا جما ،ولكن يبقَ الخوف العدو اللدود الذي سيطر علي في غالب اللحظات ومنعني من أشياء أحبها.
كبرت وتوسعت مدارك معرفتي مع نهج شمس التبريزي ، وبدأت أرى طرقا لله متعددة غير السجادة والمسبحة والمسجد والاذان ،طرق لايضج بها البشر ،طرق روحانية بشكل ينصت القلب لها طواعية دون أي تثاؤب، ويشدوا بأروع الشعور، طرق مليئة بالتأمل بالعفوية والسماحة، اتسم به ديننا الإسلامي بعيدا عن غلو المتشددين في الدين.
بدأت أحب كل شيء في الحياة، أعشق الطبيعة ،البشر ،الحيوانات ،النباتات ،كل شيء ليس لأنها جميلة أو بيننا رسائل ودية منذ زمن ،لا بل لأنها جميعا كانت تدلني على الله، لا أرى شيء بشعا أو قبيحا أو حزينا في نفسي أو غيري ، كل شيء يبدو لي جميلا ليس ﻷن الحياة فيها حياة ،وإنما ﻷن الله لن يتركنا ننجرف دون أن يساعدنا بلطفه ،فقط الشيء الذي لم يرق لي هو السيل الأسود الذي نجده يجري في ذواتنا الأمارة بالسوء من صبرنا القليل ونظرتنا المتثائبة للقدر.
ولما كان العقل فضوليا لايشبع بالأجابات المألوفة ،كان شمسا هوفيلسوفاً حذقاً يخاطب العقل والروح بميزانية خارقة تأخذنا لواحة واسعة من اﻷدلة الدامغة ،واﻹجابات الغامضة،والمعتقدات التي تشبع الروح عن اغترابها ﻷي مكان .
شمس كان رجلا يرى أبعاد الكرة اﻷرضية عن بعد وفي يديه خيوط تفسيرية آسرة تأخذ اﻷرواح وتسفر بها عبر سفينة القواعد اﻷربعينية إلى الله، كان دينه على عهد وثيق من نبينا محمد حين قال الله عز وجل عنه ((رحمة للعالمين)) لم يبرح اﻷرض إلا وترك له عشقا مخلدا في قلوب اﻷحياء،كان طريقه إلى الله معبد بالحب والسلام وكأنّ العشق الإلهي والدين الصوفي، هو الحل لكل آثام العالم.
فلقد أقمت في موسوعة جمالية من اﻷدب وفن الحياة الغامض، اجتمعت قواعد شمس القدرية ، فكانت ملاذا مناسبة لأمثالي ،وﻷولئك الذين يعشقون ماوراء الطبيعة ،يقدسون الشعور والفكر أكثر من عشقهم للحياة السطحية والمعروفة ، فكم كنت أبحث عن من يشابهني حتى في الخيال أو حتى في الكتب وكأني ورقة مفقودة ومقطوعةمن كتاب قديم وبرقم أغمي عليه من فرط البحث ،لا يعنيه الحاضر بأي شيء؛ سوى أنه يأكل من رغيفهم ويستنشق من هواءهم ،وينتعش بأمطارهم الغزيرة، أما التفاصيل الباقية فهي لاتعنيني فلازلت باحثة وكم أتمنى أن تكن حروفي شعاعًا صادقا من طيف شمس،حتى إذا مت واندثرت وحل القرن السبعيني يأتي شخص ليقرأ حروفي ويجد نفسه متاثرا ومتجها نحو الله بطرق مفعمة بالحب،كما لجئت أنا من عصري وذهبت إلى صوفية شمس اﻵسرة.
.