انفجار مرفأ بيروت ..من يستطيع فهم المعضلة اللبنانية؟

إب نيوز ٩ أغسطس
ادريس هاني

حينما يموت الضمير وتخرب الأنفس تضمحل المشاعر الإنسانية ولا نكاد نرى في الأحداث سوى كليشهات تؤكد على شيء واحد ألا وهو أنّ تقنية غسيل الدماغ وصناعة التّفاهة نجحت في تعزيز الحماقة وتفجير الحقد ومنحه صفة الرأي والتفكير. ومثال تفجير مرفئ بيروت أكبر دليل، حيث شكلت معيارا لقياس التّفاهة. الشيء المهم هنا هو حجم التضامن الإنساني وكذلك المساعدات التي انطلقت باتجاه بيروت التي أعلنت مدينة منكوبة على إثر الحدث المهول الذي أصاب المرفئ وأدى إلى خسائر كبيرة في الأرواح والممتلكات وأتى على المخزون الغذائي والدوائي. ومع ذلك فإن الوضع الإنساني لم يستطيع إسكات بعض النشاز العاجز عن قراءة حدث ما إنساني أو سياسي إلاّ من خلال الهلاوس الطائفية، حينما تتحول السياسات وتتغير الجغرافيا السياسية يصاب التافهون بعقدة حقارة.
تأتي التأويلات الفاسدة في محاولة لتحميل المسؤولية على المقاومة، كما لو أن لبنان ليست فيه جهات معنية بالتحقيق ولا أجهزة عميقة كفيلة بذلك، لكن قياس سرعة التفاهة مختلف عن قياس سرعة الحقيقة. ولعل ما هو أبعد من هذا شيخ سلفي تكفيري من ذوي السوابق يعتبر أن الحدث وقع في منطقة تعتبر معقلا لأهل السنة ورحم الله شهداءنا، غير أنّ هذا البؤس التكفيري قد يروق أيضا لمن كانت الفكرة التقدمية مجرد ذكرى قديمة لأنّ الجميع روى ظمأه من حوض البيترو-أبوال البعيرية، الجهل بتاريخ وجغرافيا التنوع اللبناني جعلت المتوحشين خارج هذه التجربة يقرؤون التنوع في مرآت رجعيتهم ، لأنهم يجهلون بأنّ لا معاقل في بيروت، وفي هذا المكان توجد مصالح ومكاتب وبيوت لكل الطوائف، وأن ضحايا الكارثة كانوا من كل النحل. والجاهل الظلامي لا يعرف أن هذا الطريق هو شريان عبور تمر منه كل الملل والنحل ذهابا ومجيئا. ولقد جلست مرارا في هذا المكان وكنت ككل من يرتاده من الممكن أن أكون واحدا من هؤلاء الضحايا. الجاهل السلفي يتحدث عن معقل طائفي بينما المنطقة عامرة بالنوادي الليلية والبارات والكازينوهات وكل المرافق المختلفة وبأنه لا يمثل تمترسا طائفيا، وبأن الاهتزازات وصلت إلى الأشرفية بل حتى الضاحية ولولا البحر الذي تحمل القدر الأكبر من التفجير لراحت كل بيروت. لا داعي أن نطنب أكثر لشرح هذه البديهية والانجرار للجواب على معلومات وتفسيرات تافهة، لكن الموضوع الأساسي هنا هو أنّ لبنان هو بلد التنوع، ولقد سبق وقلت أنّ اللّبننة ليست هي البلقنة، فلبنان مستمر بثقافته ونمط الحياة اللبنانية وهو القاعدة الصلبة غير القابلة للتغيير. بالنسبة للبنان فعنوانه الأبرز هو المقاومة، وقد كان البيئة التي حمت مشروع المقاومة الفلسطينية والمسار واحد، ومثل هذه الحقيقة لا تقال في الصالونات بل تنطق بها الأراضي الشاهدة على التحرير ويعرفها المقاومون الحقيقيون وهي من بديهيات الحالة اللبنانية العامة. اليوم توجد المقاومة في صلب الحكومة، ولأنّ لا أحد يمكن أن يلغي أحدا في لبنان فإنه من البديهي أن لا أحد يستطيع إلغاء المقاومة التي هي العنصر الضامن في لبنان وما تبقى من سيادته، ومنذ المرسوم الوزاري فإن المعادلة باتت واضحة: المقاومة + الجيش + الشعب. ومن يتعالم على اللبنانيين بالمجان ويدخل بين أطراف هذه المعادلة يحصد الوهم. للمقاومة تاريخ، وأهمه أن الأرض التي احتلت كان فيها شعب هو من دفع ويلات الاحتلال، وكان لهذا الوضع مخرج موضوعي كما في سائر الدنيا، أن ابناء المنطقة الذين كانوا يعانون من يوميات الاحتلال هم من قام وقاوم، وكانت النتيجة المنطقية هي انبثاق تجربة مقاومة وبيئة شعبية حاضنة فضلا عن أن المقاومة حق يعترف به القانون الدولي، وما تبقى هو قراءات تنتمي للخندق الحليف للاحتلال. غير أن الهمجية والحقد سيعملان لطمس هذه الحقيقة واختزال القصة في تنوع لا يزعج اللبنانيين بقدر ما يزعج المتوحشين الأغراب الذين لا يفهمون معنى العيش المشترك، وهاهم على توحدهم يكفر بعضهم بعضا. اللبناني أقرب إلى اللبناني من الأغراب الذين يشاركونه النحلة. ومن لا زال يقرأ لبنان بعقلية الهمجية هو خارج التغطية. بيروت تتنفس سياسة وفي عزّ الحرب الأهلية كان العيش المشترك في بعده السوسيولوجي وكان الخلاف حول المشاريع السياسية.
المشكلة في هذه القراءات هو اختلال ذوقي وحضاري وتأخّر في إدراك معنى العيش المشترك في بيئات ليس التنوع فيها هو المشكلة بل إرادة استعمال التنوع لضرب العيش المشترك، وهذه الإرادة منحدرة من القوى الإقليمية التي لم تقدم نموذجا في العيش المشترك الكريم والتي لم تنتج سوى ثقافة العنف ضدّ المختلف والحكم على الهويات بعدوانية بدائية. لكي تفهم معنى العيش المشترك عليك أوّلا أن تتحرّر من ثقافة التخلف والرجعية والبداوة والعبودية.
ثم إنّ المقاومة هي رد فعل مساوي للاحتلال في المقدار معاكس له في الاتجاه، والذي يحكم على شرعية المقاومة هو شعبها لا الأغراب، والذي يبرهن على شرعيتها هو الاحتلال نفسه، وهكذا فمن تعالم على المقاومة وأعطى دروسا لشعبها وفدائييها فهو لن يكون سوى عميلا رخيصا وراكب موجة في بحر من أبوال البعير، إن المقاومة التي تقدم شهداء من أبنائها وتحمي أرضها لن تكون مزعجة إلا لأبناء الخونة، وهؤلاء لن يكون لهم حس وطني كما تفضحهم لغة الإساءة للمقاومين. والمقاومون شرفاء أينما كانوا ماداموا يدافعون عن أرضهم وكرامتهم، فما الذي يضير الأغراب؟
من يدرك هذا التاريخ فهو مدرك لامحالة لمآلات الأمور، فلبنان هو هكذا، نزاعهم سياسي مؤقت غير أنّ الأغراب الذين يعزفون على بوق الحقائق المزيفة ويحسبون تفاهاتهم تحاليل سيستمرون في تقيّؤ أبوال البعير، وسنعود إلى حكاية أنّ عرب الشمال هم اليوم مستهدفون نظرا لتاريخهم العميق، بل من القبح وقلة الذوق أن ينبري من بيئة التوحش من يعطي دروسا لمن علمهم السياسة ولحن التحرر وسمفونية الذوق الرفيع. كم هو مقرف أن يزف أعرابي إسم فيروز ومارسيل خليفة ليمسح عن محياه المقرف آثار بول البعير، لكنهم ما دروا أن مارسيل وفيروز هما في هذه المساحة الممانعة وليسوا من القرف الأربعتاشري. ولكن ليس للبلادة مداويّا.
نتأمّل هذا الوضع ونكتشف يوما بعد يوم أنّ الحقد مفسد للمعنى وبأنّ الحقارة لا حدّ لها ولا نهاية. العيش المشترك في بيروت ثقافة يصعب استيعابها انطلاقا من هذه الهلاوس السوقية المنحدرة من بيئة التخلف. نتفهم أن تكون مصالح الكبار مختلفة لكن ماذا يضير الصغار في لعبة المصالح؟؟؟؟

You might also like