انفجار كبير..صراع غير محسوم..وحياد مسموم هل هي هزيمة عقل عربي؟
إب نيوز ١٢ أغسطس
ادريس هاني
لا زال الصراع بين العرب وإسرائيل لم يحسم بعد، غير أنّ للواقعية هي الأخرى في السياسة مذهبين: واقعية السياسة كفن الممكن وواقعية ليس في الإمكان أبدع مما كان. الأولى لا تستبعد الحرب باعتبار هذه الأخيرة هي أيضا امتداد للسياسة بينما الثانية تستبعد الحرب كامتداد للسياسة ولكنها متشبّثة بالسياسة وتكدّس الدّخيرة العسكرية. هذا يعني أنّ حروب العرب لا تتعدّى أن تكون صدّا لهجوم ممكن، بينما من يربح الحرب هو من يملك القدرة على الهجوم أيضا. كفّ العرب أن يكونوا محاربين، وحروبهم في الغالب تعزّز عجزهم عن الحرب وإن كان بأسهم بينهم شديدا.
لم يحسم ذلك الصراع إذن وبقيت فلسطين قضية مفتوحة لكل الاحتمالات. انتصارات العرب تفرضها طبيعة الأشياء كجزء متجذر في المنطقة، إسرائيل تخشى من المستقبل وشرعية الجغرافيا، وكان لا بدّ أن يعاد تحريف الجغرافيا بعد تحريف التاريخ، وهي لهذا السبب يهمها اهتزاز الكيانات وتقسيم الدول حتى لا يظل في الوطن العربي دولة كبرى ديموغرافيا. لكي تبقى إسرائيل فعلى العرب أن يدخلوا في دورة مستدامة من التدمير الذّاتي، هذا يقتضي تسلسل انفجاري دوري.
لا زال حدسي لا يطاوع السرديات الجامدة لحدث انفجار مرفأ بيروت، شيء ما يجعلني أفترض أنّ الحادث مفتعل، والفاعل لا يخرج من زمرة من كانوا يلعبون في الحديقة الخلفية للبنان والموصولين مع مشروع تخريب سوريا. وها هي الحكايات بدأت تطفو على السطح. وحتى لا نكون مثل سدنة القراءات التآمرية التي تنطلق من نموذج إسناد أي حدث إلى الخصم سنقول إنها فرضيات، حيث يتحدث البعض عن مسؤولية النائب عقاب صقر عن الباخرة التي حملت الآمونيا من جورجيا، والذي تم تخزينه في المرفأ خوفا من الانكشاف، وبأن الثقب الذي تم لحمه – وتسبب فيما بعد بالانفجار – كان يتم من خلاله نقل المادة باتجاه الجماعات الإرهابية في سوريا. الكمية كبيرة لكن المتفجر منها أقل حسب الخبير الروسي مما يؤكد أن جزء من المادة بالفعل تمّ نقله، بينما التحقيق يتعين أن يتجه نحو هذه القضية. عقاب صقر كذب ذلك واعتبره إشاعات، لكنه لا يستطيع أن ينفي انخراطه في الأعمال القذرة التي كانت تجري في المطبخ اللبناني المناهض لسوريا، وربما حسب الرواية ذاتها أن عبارته: “يجب نقل الحليب لأطفال سوريا” تعني نقل نترات الآمونيا. هذه ليست أحكام بل افتراضات تستند إلى وقائع، فخلف الانفجار الأخير تكمن روايات وأسرار تتجاوز القراءات المبسّطة.
حين قال ترامب بأن الأمر يتعلق بتفجير بقنبلة ضحك إعلام الممانعة الذي لم يعد يروقني أيضا لسبب بسيط: هو أنّه يبسّط ويتباسط وأحيانا “يتولدن” ويجعلنا نرتهن لتأويلات على مقاس خبرات محدودة في الوعي السياسي والاستراتيجي أيضا ولايحفر في عمق الحدث، هل يا ترى فوّض الناتو وعلى رأسه واشنطن ماكرون للذهاب إلى بيروت لأسباب إنسانية؟ هل أظهر الناتو إنسانيته خلال 33 يوم من القصف الإسرائيلي المكثف على الضّاحية؟ الجديد في الأمر هو أن إسرائيل التي تجنبت طيلة تلك الحرب ما عاد في إمكانها أن تميز بين غرب بيروت وشرقها ووسطها، فإن كان لإسرائيل دخل في انفجار المرفأ فهذا يعني أن بيروت كلها باتت مستهدفة، لقد بدأت قواعد الاشتباك تتغير، وهذا ما دعى قادة الدول العظمى للهرولة لانقاذ الموقف. الفرضية هنا تعززت في حديث ترامب نفسه الذي أقنعنا خصمه الديمقراطي بأنه أحمق، وسنرتكب الكثير من الأخطاء إن بقينا نردّد براباغاندا جماعة جو بايدن. حين تحدث ترامب عن قنبلة أدركت أنّ الجميع سينتهي يوما إلى هذه القناعة وسيكون الأمريكي قد بنى مصداقيته على هذا السبق الذي يبدو اليوم أرعن بينما حلفاؤه لا زالوا في منزلق البروباغاندا، لنتذكّر أن أمريكا أوّل من صرح بوجود القاعدة في سوريا، ماذا حدث بعد ذلك لحلفائها؟
إذا كان بالفعل حديث الآمونيا وباخرة جورجيا وحكاية عقاب صقر الذي خرج من صمته ليكذب كل هذه التهم، إذا كان ذلك واقعا بالفعل فإنه من الطبيعي أن تكون إسرائيل عارفة أكثر من غيرها بما هو موجود في المرفأ، فعلاقة إسرائيل بجورجيا تتجاوز المجموعة الحريرية وعلى رأسها منسق عمليات تمويل وتسليح الجماعات المسلحة في سوريا عقاب صقر. هناك مساحات غامضة داخل بيروت، خالصة في مناوراتها للحريرية والجعجعية، لعله من خرائف السياسة القول بأنّ قادة المقاومة وأجهزتها عارفون بكل ما يجري في بيروت. والحال أنهم اليوم ينتظرون كما ينتظر الرأي العام ما ستكشف عنه التحقيقات، على الرغم من أنّ الأطراف المشبوهة بدأت تحرّك الشارع لخلط الأوراق وتضغط على الحكومة في انتظار فراغ يغطّي على سير التحقيقات لا سيما بعد أن وعد الجنرال عون بأنه سيتابع هذا الأمر وسيتخذ مواقف صارمة. انفجار المرفأ هو بداية للكشف عن ثغور الفساد الحقيقية في لبنان، وكل همّ ماكرون اليوم كمفوض من قبل الغرب هو تهدئة الأوضاع وحفظ قواعد الإشتباك.
الحلّ المثالي في لبنان لا زال مستبعدا، فوضع لبنان وموقعه في معادلة الصراع في إقليم غير مثالي لن تجعل التوافقات إلاّ تكرارا لنظيراتها ومن هنا كل شيء ممكن حتى عودة الحريري غير مستبعدة خشية انفجار آمونيا السياسة اللبنانية. وسيظلّ حراك الطبقة السياسية على المنوال نفسه من المناورة والتفاهمات في الحدّ الأدنى حيث ذلك هو الممكن السياسي، بينما الحديث عن انقلاب شعبي هو قراءة ساذجة لأنّنا نتحدث اليوم في لبنان عن شعوب ومجتمعات بحجم التجزئة التي تطبع الإرادات والمصالح والاصطفافات، فحراك شعبي يعني حربا أهلية وتأزيما لا زالت المقاومة تتحاشى فيها لعبة الشارع.
أعود وأقول أن الصراع العربي -الإسرائيلي لم يحسم بعد، ومنذ 1973 أكد العرب أنّهم في حاجة إلى ابتكار طريقة في المواجهة، وهي الطريقة التي لم تنشأ بعد بل انهار الوضع العربي وأصبحت مشكلته بينية، وكان ذلك انتصارا لإسرائيل، انتصارا غير مكتمل وغير مضمون على المدى البعيد، حيث استطاعت أن تخرج العرب من التفكير في الحرب بل حتى التفكير في ردّ العدوان.
يقولون أن حرب 67 كانت منشأ هذا الإحباط بينما الحقيقة هي انتصار حرب 73، إنّ مشكلة الانتصار العربي في حرب أكتوبر هي التي لا زالت ترهن الإرادة العربية. ليتهم ظلّوا على هزيمتهم غير المكتملة لكي يعرفوا كيف يستأنفوا نهوضهم بدل انتصار غير مكتمل جعلهم أكثر قبولا بالهزيمة. في تلك الحرب كان الانفعال والإحساس بأنهم دون مستوى الانتصار، لم يصدقوا أنفسهم، ثم فاوضوا، ودخلوا في تسويات غير مكتملة، لأنّ طبيعة هذا الصراع لم تكن تسمح بالحسم، ثمة شيء يريده العرب وهم عاجزون عن تنفيذه وثمة شيء تريده إسرائيل وتسعى إليه بوسائل مختلفة. سأحيل إلى مقاربة من نوع آخر جاءت في سياقها، لا يتعلق الأمر بأي من تلك المقاربات التقليدية للمواجهة بل هي مقاربة ممن لم يكف يوما عن هجاء العرب وانفعالاتهم التي تقع تحت العقل، كيف تلقّى انتصار 73.
في تلك الأثنى يروي العروي أن ريمون آرون قال له بأنك في السنة الماضية كنت تشكو مرارة الهزيمة واليوم ها أنت تنتصر. وبعد ذلك أدرك العروي أن ريمون يقصد أن العرب انتصروا على إسرائيل، وقال له عالم الاجتماع الفرنسي الشهير يومئذ بأنه التقى مع هنري كيسنجر وقال له بأننا لا يمكننا خوض حرب نووية من أجل إسرائيل. وسيحاول العروي تأويل كلام ريمون آرون، حيث استنبط منه أن العرب نجحوا في جعل قضيتهم ضمن مشاغل الدول الكبرى كما احتمل أن يحمل كلام آرون معنى أن أمريكا أنقذت إسرائيل من الهزيمة بوسائل تقليدية غير نووية، بهذا المعنى يفهم العروي من كلام آرون بناء على حديث كيسنجر بأن إسرائل انهزمت.
ليست المقاومة اليوم وحدها من تبني على أنّ الاحتلال يعيش على مناخ الهزيمة بل هذا ما اعتقده من لا يرون رأيها قبل تحوّل الجغرافيا السياسية. وفي حديث آخر ركز العروي نفسه على تكتيك استدراج العرب لطمأنة إسرائيل، طمأنتها بشكل مجحف، ثمة ما رآه بمثابة انقلاب الآية. لكي يتغلب الإسرائيليون على مشكلاتهم الذاتية حسب العروي وجب على العرب الاعتراف بالأمر الواقع اعترافا تاما غير مشروط، وبتعبير آخر:” إسمح وتسامح، تنازل عن حقك ثم اضمن لي حيازته إلى الأبد: مطلب غريب”.
ما يجري عبر الميديا العربية ليس محاولة للفهم ولا حتى للتحليل بل هو جزء من فوضى المعنى المقصود والممنهج، سيكون من الطبيعي أن يرتبك الرأي العام، بينما الحيلة انطلت على المحلل نفسه الذي بات ناطقا عن هذا الاضطراب. إنه إقليم مضطرب عاجز عن أن يفهم ما لا يراد له فهمه، بينما وسائل الإعلام تعلن الحرب يوميا على الحقيقة في انتظار اكتمال القابلية للإستسلام النهائي. هذا واقع لن ينفع العرب بمن فيهم الأكثر تمثّلا للواقعية، لأنه يحفر تحت الأسس التاريخية والجيوسياسية للكيانات والدول العربية. على الأقل كان على العرب أن يحافظوا على هذا الاضطراب بدل الهرولة إلى الإستسلام التام، وهم بهذا لا يفعلون سوى تسريع انهياراتهم.
أعتقد أنّ هذه المشكلة الذاتية لإسرائيل تحوّلت إلى الداخل العربي، فكرة النزوح والهروب من الوطن العربي باتت تهيمن على المشاعر العربية، تراجع الوطنية، كثرة العملاء، بروز أشكال مهولة من المخربين، ليس من قبيل الصدفة أن كل أسباب الدمار تأتي بشكل فائق: عنف داعش، انفجار المرفأ، انهيار كيانات بالجملة وبأقل تكلفة، ثورات غامضة، كل ما يتعلق بخرائب العرب يبدو فائقا وسهلا. وعليه، فإنّ الصراع العربي -الإسرائيلي في غياب حلّ نهائي للمسألة الفلسطينية هو حقيقة تفرضها الجغرافيا والإرتهان للعقدة المزمنة لاحتلال قدره أن يبقى مضطربا ومسكونا بذهان الحرب. وهذا الوضع يجعل من فكرة الحياد مُغالطة جيوبوليتيكية، بل ومن بين المفاهيم الوظيفية التي يتولّى الطابور الخامس استعمالها في معركة تُدار اليوم على مسرح الأحداث كما تدار في مسرح المفاهيم والمعنى أيضا..
ادريس هاني:12/8/2020