لماذا الإمام علي -عليه السلام- دون غيره من البشر؟!
إب نيوز ١٤ أغسطس
د. يوسف الحاضري
يعلم الجميع بجميع مذاهبهم ومشاربهم وتوجهاتهم وأفكارهم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم آخى بين المهاجرين والأنصار، فكان يؤاخي بين واحد من المهاجرين مع واحد من الأنصار… إلا هو والإمام علي واللذان يحسبان على المهاجرين، فآخى الإمام علي بنفسه رغم أنهما من المهاجرين… فلماذا اتخذ الرسول من الإمام علي أخا له دون أحد من الأنصار؟؟
لماذا قام الرسول بتبني الإمام علي في صغره رغم أن عمه أبو طالب (والد الإمام علي) كان سيد قريش ومن أثريائها (ولم يكن فقيراً كما روجت له الثقافات الباطلة) فهو أساساً من ربَّى محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بعد موت جده عبدالمطلب، حتى اشتد عوده مع بقية أبنائه، فكيف كان فقيراً؟؟ وحتى لو كان فقيراً مثلاً فلن تحل مشكلة الفقر برعاية واحد من أصل 10من الأبناء بل يكمن الحل في إعطاء الأب مبلغاً من المال كل فترة وأخرى!!.
عندما عزم النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الهجرة وعلم بمؤامرة كفار قريش لقتله أمر الإمام علي الشاب ذو الـ20 عاما بالنوم في فراشه والنبي كان عمره آنذاك 53عاماً (وشتان بين بنيتهما في تلك المرحلة العمرية)، فأي قوة وتسليم وثقة بالله يمتلكها الشاب علي والتي فاقت قوة وتسليم وثقة اسماعيل -عليه السلام- عند الذبح (رغم عظمة تضحية وتسليم إسماعيل، عليه السلام) فإسماعيل كان سيقتله أبوه (نبي) بأمر إلهي.. أما علي فكان سيقتله سفهاء مكة بأمر شيطاني وهنا يظهر الفارق بين القوة التي تتجسد في نفسية الآمرين والشابين؟؟؟
حمزة بن عبدالمطلب عم النبي وعم علي أيضاً كان من أحب وأقرب الناس إلى النبي وكانت مكانته تقارب مكانة علي واللذين كان موقفاهما في (بدر) متطابقين… ولكن الله اصطفى حمزة في ( أحد)، وأيضاً توفى الله كل أبناء النبي في مهدهم (وهم بطبيعة الحال من صلب أطهر البشر ومكانتهم عظيمة جداً) وأبقى الله علياً حياً دون أن يستشهد في أية معركة للنبي رغم مواقفه العظيمة على الإطلاق في كل المعارك… فهل لهذا الأمر حكمة الاصطفاء للإمام علي بعد النبي دون أن يكون هناك شخص عظيم ذو مكانة رفيعة تضاهي الإمام علي يكون سبباً للخلاف أو لإيغال الأنفس عند موت النبي وقضية (الولاية)؟؟؟؟
معركة بدر، كان للإمام علي عليه السلام الدور الأعظم فيه، حيث انبرى للقتال السابق للمعركة مع عمه حمزة، وابن عمه الحارث، ولم يكن من الذين كرهوا الخروج للقتال، ولا الذين أرادوا أن تكون لهم غير ذات الشوكة، بل كان من الذين يريدون المواجهة والقتال ليحق الله الحق، ويبطل الباطل، لذا كان في أولى مواجهات المسلمين مع الكفار ثابتاً وقضى على من نازله بسرعة وثقة وثبات.
لذا ومن منطلق أن الحروب هي التي تحدد مسار المستقبل للخير أو للشر… للحق أو للباطل، ففي هذه الحروب يظهر الرجال الربانيون من المنافقين ومرضى القلوب (والقرآن وضح ذلك في كثير من آياته)..
لذا نجد أن مواقف الإمام علي في كل معركة خاضها مع النبي أعظم وأشرف وأقوى من مواقف بقية الصحابة …
ففي (معركة الأحزاب) وفي تلك اللحظات التي استهزأ بها عمرو بن ود بالرسول والإسلام والمسلمين قال النبي لكل أصحابه: “من لعمرو وله الجنة” (لاحظوا وركزوا في الطرح الذي يعلمه الجميع، وليس طرحاً قصصياً، بل فكرياً وعقلانياً لتصحيح ثقافات مغلوطة).. قال النبي لأصحابه: “وله الجنة”.. يعني أن كل من كان عنده لم يكن أحد منه ضامناً للجنة أو مبشراً بالجنة، رغم أن معظمهم من أصحاب بدر وإلا كان سيقول: “وسأسال الله أن يزيد مكانته وفضله في الجنة”.. لا لا.. بل قال وله الجنة؟.. فقال علي: “أنا له يا رسول الله”… فأوقفه النبي وكرر طرحه على بقية الصحابة (لاحظوا أن كل الصحابة في كفة في خطاب النبي، وعلي في كفة أخرى)… وعند الثالثة وتكرار النبي للطرح وله الجنة… النبي يطرح موضوع قتال وتضحية مقابل الجنة وهو النبي بشحمه ولحمه ومع ذلك (خاف وتراجع الجميع رغم أنه “النبي” “النبي” “النبي” الذي يبشرهم بالجنة ويحفزهم) ولكن نفسياتهم البشرية التي غمرها حب الحياة والخوف من مواجهة انفرادية مع مقاتل قوي وشجاع مثل عمرو بن ود غلبت على روحانية وجود النبي بينهم وعرضه للجنة مقابل منازلته (وليس التغلب عليه) … لاحظوا أيضاً أن النبي قال من لعمرو (يعني يخرج يقاتله لأنه استهزأ بالنبي والإسلام والصحابة ولم يقل من سيقتل عمرو) فمن سيخرج يقاتل عمرو له الجنة حتى لو قتله عمرو فقد استجاب للرسول إذ دعاه لما يحييه… ولكنهم خافوا باستثناء الإمام علي الذي كان حاضراً في كل نداءات النبي الثلاثة … ليخرج بعدها الإمام علي ويقضي على عمرو وعندها قال النبي: “لن يغزوكم بعد عامكم هذا ولكن تغزوهم أنتم” في إشارة إلى أن الدين الإسلامي تمكن في الأرض بعد ضربة الإسلام كله (الإمام علي) التي قتل الكفر كله (عمرو بن ود)… وأيضاً لو تأملنا قليلاً لماذا لم يكتف النبي بالعرض مرة واحدة عندما قال: “من لعمرو وله الجنة”؟، فقال الإمام علي: “أنا له”، ولكن النبي أوقفه ليكرر الأمر مرة أخرى ؟ كان يمكن للنبي أن يقول توكل يا علي وخلاص!!!
لا ليست القضية من لعمرو؟؟ القضية أعظم وأكبر تتوافق في هدفها مع هدف (لأعطين الراية غداً) في فتح خيبر اليهودية، من خلال شرح النبي للمؤمنين في تلك الحقبة من يكونوا بجانب الإمام علي عليه السلام، فتكرار الأمر ثلاث مرات وفي الأخير يقول لعلي تحرك والبقية صامتون خائفون يعكس مكانة علي عند الله وعند الرسول وعند المؤمنين مقابل مكانة بقية الصحابة بما فيهم أبو بكر وعمر وعثمان وسعد ومعاذ وغيرهم؟؟ ألم يكن هؤلاء الصحابة متواجدين في تلك اللحظة التي كان يقول الرسول من لعمرو وله الجنة؟؟؟
وما مدلول قول النبي عندما خرج علي لعمرو: “برز الإسلام كله للشرك كله”؟؟ فلو قتل علي مثلاً هذا كان يعني أن الدين سيتلاشى بموت الإمام علي عليه السلام؛ لأن الرسول قال: الإسلام كله… ولكن عندما انتصر علي على عمرو ألم تكن هذه بداية نهاية الشرك في مكة والذي لم يستمر بعدها إلا 3 سنوات؟؟
إذاً هناك تساؤل:- ماذا كان يمثل بقية الصحابة من رقم إسلامي بجانب رقم الإمام علي “الإسلام كله”؟؟؟؟
معركة خيبر كانت هناك معانٍ عظيمة قدمها النبي تختص بالإمام علي للمسلمين أجمع… ألم يصعب على المسلمين فتح حصون خيبر رغم أن النبي أرسل سرايا عديدة لفتحها بقيادة أبو بكر، ثم بقيادة عمر، ثم بقيادة آخرين؟؟؟ نعم… بدأ النبي في إرسال قادة معينين لحكمة علمه إياها الله؛ لأنه لو بدأ بإرسال الإمام علي وفتح الحصون لم يكن هناك من دروس وأهداف ورسائل سيستخلصها المسلمون من فتح خيبر، وكان سيقال: إن هذه الحصون سهلة وربما لو أرسل النبي شخصاً آخر كان سيفتحها مثله مثل علي!!، أليس هذا حال المقال في مثل هذه أوضاع؟؟
ولكن الرسول أخر الإمام علي كما أخره في غزوة الخندق ليلزم بقية المسلمين الحجة ويقتنعوا مستقبلاً في (ولاية الإمام علي) بل وأحقيته بها دون غيره.. بل هناك أمور خطيرة جدا في خيبر… ألم يقل النبي في حديثه المشهور: (لأعطين الراية غداً رجلاً يحبُّه اللهُ ورسولُه، ويحبَّ اللهَ ورسولَه كرار غير (فراااار) يفتح الله على يديه).. لماذا تركها للغد ولم يقل الآن خاصة والأمور حامية وهناك مسلمون ينهزمون تلو المسلمين؟؟ الهدف من الغد ليجعل كل المسلمين يفكرون ويجلسون مع أنفسهم ليلا متسائلين (من هذا الذي يحبه الله ورسوله؟، ومن هذا التكرار؟، وماذا يعني الرسول بـ”غير فرار” ولماذا ذكرها الرسول في سياق وصفه للرجل هذا خاصة؟، وهناك سرايا انكسرت وانهزمت، وعاد منها من عاد بصفة (الفرار والهروب)؟؟؟، وهل أيضاً السابقون له لم يكن الله ورسوله يحبانهم ولا هم أساساً يحبونهما؟
بالفعل.. ستكون هناك أوضاع نفسية وأفكار تتجذر في الأنفس جميعاً تجعل من الرجل الذي سيقول عنه النبي صباح الغد إنه الأفضل دون منازع ولا جدال ما دام يحبه الله ورسوله، ويحب الله ورسوله كرار غير فرار؟؟
يعلم الجميع أنه كان المقصود بالرجل هو (الإمام علي) هذا الذي يحب الله ويحب الرسول (وهذا الحب ليس مشاعر بل مشاعر تترجم لأفعال وحركات وصفات وسمات ومنهجية) فالمحب يبذل مهجته فداء للمحبوب، هذا الذي يحبه الله ورسوله مما يعني أننا نستطيع أن نطلق عليه نفس ما نطلق على النبي بـ(حبيب الله)، فكيف برجل يحبه الله ويصرح بذلك الحب على لسان نبيه، والله يقول في جزئية الحب (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)، فهذه الصفات فضل من الله يؤتيها من يشاء وممن شاء الله بمشيئة عظيمة وكبيرة هو ما أعطاها للإمام علي في معركة تجلت فيها كل معاني «أذلة على المؤمنين» و»أعزة على الكافرين» وجهاده في سبيل الله وهدفه سبيل الله وليس لأهداف ونزوات شخصية ولا يخاف أحد وهذه صفة «الكرار» وليس «الفرار»… لينتهي على يد الإمام علي آخر فصل من فصول اليهود في تلك الحقبة كما انتهت أيضاً من قبل على يديه آخر فصول من فصول الشرك في تلك الفترة في (معركة الأحزاب)…
قد يتساءل أحدهم (وهو محق في تساؤله): لماذا لم ينبري النبي بنفسه لقتال عمرو بن ود وأيضاً: لماذا لم يقد النبي بنفسه فتح حصون خيبر وهو القادر على قتل عمرو وفتح الحصون؟؟
الرد واضح جداً.. الكل يعرف ذلك ولكن سيقولون (هذا نبي؟؟) يعني مؤيداً من الله أمر لا جدال فيه ولا شك ولن يزيد النبي هذه الأمور فضلاً فهو المفضل على العالمين وصاحب المكانة الأسمى دون غيره، ولكن هذه الأحداث مواطن هامة ليكشف النبي للجميع نفسياتهم جميعا وليضع عامل القتال والانتصار في سبيل الله هو المقياس للتفضيل بين أصحابه (كما كان الحال مع نبي الله داوود عندما قتل جالوت أعطي الحكم والنبوة وكان قبلها رجلاً عادياً)، وأيضاً ليقول للجميع: هذا علي مولاكم، ووصيي وخليفتي من بعدي، فما دام حي فلا يوجد من هو أفضل منه في الأرض، ولا أجدر منه على قيادة أمتي بعدي كقيادته للمعارك في وجودي، فلم يخف ويتراجع عندما خرج عمرو ابن ود لقتالنا والبقية تراجعوا، ولم يكن فراراً في فتح حصون خيبر، بل كان كراراً، وهو من صرح النبي بحب الله له وبحبه لله، وهو الإسلام كله الذي نسف الشرك كله في الأحزاب والذي نسف اليهودية كلها في خيبر، عوضاً عن أنه لو قام النبي في غدير خم، وأعطى الإمامة والوصاية للإمام علي بدون أي مقدمات عظيمة في مجالات العظماء (الجهاد) لكان كثير من الأنفس ستمتلئ استغراباً واستهجاناً قائلة لأي سبب يجعل النبي ابن عمه وصياً له؟؟ هل لأنه ابن عمه وزوج ابنته؟؟ هذا الأمر سيكون مجاملة ومحاباة!!! ولكن الأمر أبعد من ذلك.. فكل هذه المقدمات جعلت حوالي 120 ألف مسلم يقرون بالإمامة والولاية لعلي عليه السلام، حتى أن عمر بن الخطاب قال لعلي بعدها: «بخ بخ يا ابن أبي طالب ها أنت أصبحت مولاي»، قالها النبي وهو يعلم لمن سيعطي الولاية، وما هي صفاته وسماته ومكانته وعظمته.
أما في معركة (تبوك) عندما جعل النبي علياً خليفة له في المدينة.. جعل من منافقي المدينة يتحدثون عن أن إبقاء علياً في المدينة ليس إلا استثقالاً له وغير ذلك من أحاديث يشتهر بها المنافقون على مدار الأزمنة وحتى في زمننا هذا؟؟ فقال النبي لعلي كلمات مليئة بكل حب وكل حنية وكل ثقة وكل إيمان وكل مكانة اجتماعية وكل منزلة رفيعة (أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي)، يعلم النبي والكل أن كل معركة خاضها المسلمون كانت اليد الأولى والطولى للإمام علي دون غيره، لذا كانت ضرورة قصوى خروج الإمام علي في جيش تبوك لأنهم سيقابلون قوة عالمية كبرى (الروم) ويحتاجون إلى أقوى مقاتليهم، وأكيد الإمام علي (ع) يتصدرهم جميعاً، لكن الله والنبي أرادا أيضاً تأسيس فكرة وثقافة ومعلومة هامة في هذا الخروج هو أهم وأعظم من معركة المسلمين ضد الروم، وهذه الفكرة أن منزلة علي من النبي محمد تماما كمنزلة ومكانة هارون من موسى في كل جزئيات الفكر العلمي والواقع المجتمعي والقدوة الحسنة والإمامة البشرية باستثناء أن يكون نبياً؛ لأن محمداً هو آخرهم، ولو لم يكن آخرهم كان سيكون نبياً، فبمجرد ما ذكر النبي محمد عبارة (إلا أنه لا نبي بعدي) أسست هذه العبارة مفهومية مكانة علي العظيمة لأن الجميع أساساً يعلم أنه لا نبي بعد محمد، ولكن النبي محمداً عندما رفع علياً لمنزلة هارون من موسى رفعه في جميع الصفات والمنازل والمفاهيم والعلوم والدين والعظمة والقدوة الحسنة والإمامة والخلافة من بعده وووو باستثناء أن يكون نبياً، ويطلق عليه مسمى نبي… ولكم أن تراجعوا من كان خليفة موسى بعد موته في قومه بني إسرائيل؟؟؟ لتعلموا معنى الإمامة والولاية!!!!
الإمام علي -عليه السلام- اختاره الله ليكون ندا وزوجا لفاطمة ابنة خير البشر محمد، وقد قال في الموضوع النبي محمد عليه وآله الصلاة والسلام (لو لم تكن موجودا يا علي ما كان هناك من هو ندا لفاطمة)؟؟ أيعني النبي أن كل أصحابه كبيرهم وصغيرهم مهاجريهم وأنصارهم السابقين والمتأخرين حتى أبو بكر وعمر وعثمان وسعد ومعاذ ووو هاشميهم وأمويهم وعباسيهم وخزرجيهم وأوسيهم ويمانيهم وحجازيهم ونجديهم وفارسيهم ووو ليسوا نداً لفاطمة؟؟ نعم هؤلاء جميعا ليسوا ندا لها… ولم يكن نداً لها إلاَّ علي -عليه السلام-وهنا تتجلى عظمة ومكانة الإمام علي (ع) المجتمعية في العالمين!!!
الإمام علي عليه السلام عندما توفي النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم ينشغل بأمر آخر بتاتا بقدر ما أنشغل بأمر تجهيز الجسد الأطهر على الإطلاق ليقبره، ولم يؤثر على نفسيته أخبار صراع الناس على موضوع خلافة النبي في «سقيفة بني ساعدة» فالعظماء يجب أن تكون مشاريعهم وأهدافهم بتلك المنزلة العظيمة التي أصبحوا لأجلها عظماء وهناك أولويات لهم، عوضاً عن تناسي الناس لأمر نبيهم، وأنه مات رغم أنه ما زال بينهم لم يدفن بعد، وتوليتهم له ظهورهم؛ ليتنازعوا على السلطة كان أمراً خطيراً جداً تعكس نفسيات كثير من الذين عاشوا سنيناً مع النبي محمد صلوات الله عليه وآله وسلم، خاصة والدولة الإسلامية في تلك الحقبة لم يكن يخاف على انهيارها كون الأخبار أساساً لا تصل لمناطق أخرى إلاَّ بعد أسابيع وأشهر وموضوع تجهيز النبي وقبره لن يأخذ منهم إلا ساعات معدودة، لتتضح الرؤية جلية عن سبب تسابق بعض النفسيات على الاستحواذ على الحكم على حين غرة، وعلى الرغم أنه لم يمض على حديث الغدير سوى أقل من 90 يوماً من 18ذي الحجة (10هجرية) إلى أواخر ربيع (11هجرية) وذلك التهديد الشديد من الله لنبيه إن لم يبلغ بوصاية الإمام علي، فكأنه لم يعمل شيئاً في الرسالة النبوية خلال23عاماً… بمعنى مجهود 23 عاماً كان مرهوناً بتبليغ موضوع واحد لن يتجاوز دقائق معدودة (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ)، هل يمكن لنا أن نتجاهل موضوع هام وخطير كهذا الموضوع ببعض مبررات لا ترتقي لمخالفة شديدة لهذا الأمر العظيم؟؟
الإمام علي عليه السلام صبر على قومه خلال حكم الخلفاء الثلاثة الممتد لـ25 عاماً، وعلى حروبهم له خلال فترة حكمه الممتدة 5 سنوات بصبر يضاهي صبر النبي نوح عليه السلام الممتد لـ950 عاماً، فالمدة الزمنية ليست مقياساً لعظمة الشيء من دونها إن وضعنا ما حصل لهما خلال فترة صبرهما.
الإمام علي عليه السلام بعمل عظيم واحد جمع بين عملين عظيمين لنبيين عظيمين هما إبراهيم وابنه إسماعيل ، فقد رمى علي نفسه لنار الموت المحقق (فراش النبي عند الهجرة) كما رمى الآخرون إبراهيم في النار غير أن علياً رمى وضحى وافتدى وبادر بذاته، ولم يكن مغصوباً أو مجبوراً، وكذلك الذبح الذي أمر الله إبراهيم لإسماعيل كان ينتظر علياً ذبحاً أيضاً، ولكن دون أن يكون الله هو الآمر فيكون التسليم مطلقاً دون تراجع أو تردد عوضاً عن أن سكين إسماعيل كانت بيد نبي وأب له، بيد أن سكاكين (وليس سكين) علي كانت بأيدي عشرات من مشركي قريش بتخطيط شيطاني، حيث أن فارق الحفظ والحماية بين الأمرين كبير ولا مقارنة.
الإمام علي (الإسلام كله) عندما قضى على عمرو ابن ود (الشرك كله) لينتصر الإسلام نهائيا على الشرك ضاهى ذلك العمل ما قام به نبي الله داوود عندما قتل جالوت لينتصر بعد الإسلام على الباطل، ولكن الفارق أن داوود عظَّمه أصحابه ورضوا به حاكماً لهم ونبياً من رضاهم بحكم الله واصطفائه له، بيد أن أصحاب علي لم يمتلكوا تلك النفسية المجتمعية التي امتلكها قوم داوود بل سلبوه الحكم والولاية والوصاية التي أمرهم بها الله في غدير خم فسلب الخير على الأمة منذ تلك الفترة حتى يومنا هذا.
الإمام علي (ع) صبر على قومه بعد موت النبي صلوات الله عليه وآله ولم يخرج منهم مغاضبا أسفا كما خرج يونس عليه السلام بسبب جحود قومه له… بل صبر وبقي بينهم كبقاء موسى وهارون في قومهما في زمن التيه كي لا يتركا للضعف والوهن والدمار النفسي أن يسيطر على قومهما والأجيال التي بعدهم رغم أن الوضعين شديدان على الجميع.
الإمام علي صبر صبراً أعظم مما صبره نبي الله أيوب… فمصائب علي التي صبر عليها كانت معظمها (نفسية) وليست مرضاً جسدياً كحال نبي الله أيوب، فسلب الولاية وذهابها لمن هو دونه مصيبة نفسية صبر عليها وتحملها ثم تناقلها لمن هم دونه، كذلك صبر عليها وامتد الصبر لحوالي 25 عاماً، عوضاً عن قيام أصحاب النبي وبعض نسائه كعائشة بمناصرة معاوية (والكل يعرف ما يعني معاوية) عليه وهذه مصيبة نفسية شديدة وقاسية عليه تحملها وصبر أيضاً، فكيف تقارن مصيبة جسدية متاعبها ونتائجها السلبية على شخص واحد بمصائب نفسية انعكاساتها أصابت أمة بجلها زادت بلاء بتولي (النفاق) أمر أمة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بشخصية معاوية بن أبي سفيان ؟؟
حكمة وحنكة الإمام علي الإدارية انبثقت من حكمة وحنكة نبي الله يوسف عند حكمه لـ(مصر) ولكم أن تراجعوا (عهد مالك بن الأشتر) عندما ولاه الإمام علي (مصر) أيضاً لم يعان الإمام علي أدنى معاناة عند ذهابه لليمن ليدعوهم للإسلام كما عانى نبيا الله عاد وصالح عندما أرسلا إلى اليمن رغم أن الأول رسول رسول الله، والاثنان كانا رسولين لله مباشرة.. رغم أن اليمن هي اليمن والدعوة الدينية هي الدعوة الدينية..
كل هذا يعكس مدى ارتباط الإمام علي -عليه السلام- بالقرآن وبأحداثه وأحاديثه التي ترجمها في كل مراحل حياته ولم يزغ عنه أو يحيد أو يهمل أو يقصر حتى في حرف واحد منه.
هذه قطرات فقط من بحار الإمام علي -عليه السلام- والذي دعا النبي له في غدير خم بقوله: (اللهم وال من والاه، وعادِ من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله).