الملف اليمني: إدارة بريطانية بمندوب سامي .
إب نيوز ١٧ أغسطس
السفير محمد محمد السادة
لم يكن لغرور النظام السعودي سقف عندما أعلن وزير خارجيته من واشنطن العدوان على اليمن،كما لم تشك الولايات المتحدة بقدرة التحالف المكون من 14 دولة تشارك بشكل مباشر في العمليات العسكرية بقيادة النظامين السعودي والإماراتي على حسم المعركة ودخول صنعاء خلال عشرة أيام وفق ماتعهد به النظام السعودي للإدارة الأمريكية،ولكن صنعاء أسقطت ذلك الغرور وأثبتت أنها منيعه بالرجال مُحصنه،بشهادة كولن باول وزير الخارجية الأمريكية الأسبق الذي إعترف بخطأ بلاده في تصديق وعود السعودية قائلاً: أخطأنا برهاننا على جيش ضعيف ووزير دفاع ليس لديه فكرة عن كلمة حرب.
وبعد أن تأكدت الإدارة الأمريكية من إستحالة الحسم العسكري في اليمن وفشل التحالف بقيادة السعودية رغم كل ما قدمته من دعم عسكري ولوجستي وإستخباراتي للتحالف،وإفشال للمساعي الأممية لجمال بن عمر و ولد الشيخ، لذا قررت واشنطن إحالة الملف اليمني لبريطانيا التي لديها معرفة أكثر بالشأن اليمني بحكم خبرتها الإستعمارية الطويلة للدول ،وتمرسها في خلط الأوراق واللعب على المتناقضات، وإدارتها للصراعات الداخلية ومحاولة تغذيتها بصبغات إنفصالية وعنصرية وطائفية، بالإضافة لتبنيها لمراكز قُوى على حساب أخرى ، لذا فالحضور البريطاني في الملف اليمني رئيسي منذ بدء العدوان على اليمن ويتمثل بدور سياسي وعسكري ظاهره يخدم قوى تحالف العدوان بقيادة النظامين السعودي والإماراتي بالإضافة لحكومة هادي،فيما جوهرُه يخدم الأجندة البريطانية-الأمريكية ومشاريع تقسيم المنطقة والتطبيع مع العدو الإسرئيلي .
بدء الدور البريطاني في الملف اليمني بالتنامي بدءاً من تشكيل اللجنة الرباعية الدولية في مايو 2016 والتي تضم الدول الأربع الرئيسة في العدوان على اليمن وهي بريطانيا والولايات المتحدة والسعودية والإمارات دون غيرها، وإتضحت ملامح الدور البريطاني أكثر من خلال تعيين ثُلاثي بريطاني لإدارة الملف سياسياً وإنسانياً واقتصادياً، ففي فبراير 2018 تم فرض البريطاني مارتن غريفيث كمبعوث أممي جديد لليمن، كما قامت بريطانيا في نفس الشهر بتعيين مايكل ايرون كسفير جديد لها لدى اليمن، وكان قد سبق ذلك تعيين البريطاني مارك لوكوك كمساعد للأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية.
لايمكن لعاقل تصديق أن تسلم بريطانيا للملف اليمني يأتي في إطار المساعي الدولية لإحلال السلام و وقف العدوان على اليمن، فهذا التوجه لاينسجم مع كون بريطانيا ثاني أكبر مُصدر للسلاح للنظام السعودي،حيث بلغت مبيعاتها له منذ بدء العدوان على اليمن 7مليار دولار ، ولا غنى لسلاح الجو السعودي عن التايفون والتورنيدو أبرز المقاتلات البريطانية المستخدمة في قتل المدنيين في اليمن، ليس هذا فحسب، فالقنابل البريطانية ومنها العنقودية المحرمة دولياً يستخدمها تحالف العدوان ضد الأعيان المدنية، لذا فبريطانيا تتحمل المسؤولية القانونية لمشاركتها في تزويد تحالف العدوان بالسلاح الذي قتل الآف المدنيين، كما لا يقتصر الدور البريطاني على بيع الأسلحة للنظام السعودي، بل تقوم أيضاً بتقديم خبراتها العسكرية التي تشمل المهندسين والمُدربين ،وتوفر الخبراء وضباط الإتصال في مراكز القيادة التي يتم فيها تحديد الأهداف في اليمن، ويبلغ عدد القوات البريطانية العاملة في القواعد السعودية 6300 فرد يقدمون الدعم اللوجستي والعملياتي على الأرض، بالإضافة لوجود قوات برية بريطانية مشاركه في العدوان على اليمن وتقوم بمهام محددة.
دور سياسي بريطاني برداء إنساني
الحضور والإمتداد للملف اليمني يبدأ من الداخل البريطاني ،حيث يتجاذبه ويوظفه الحزبين الرئيسيين على الساحة السياسية البريطانية من أجل الكسب السياسي والإعلامي والإنتخابي،فحزب العمال المعارض يعزف على وتر المعاناة الإنسانية في اليمن والدعم العسكري الذي تقدمه حكومة تيريزا ماي للنظام السعودي في عدوانه على اليمن وماتسبب به السلاح البريطاني من جرائم إنسانية،فيما تحاول حكومة حزب المحافظين تلميع صورتها داخلياً وخارجياً من خلال التحرك الدبلوماسي وقيادة الجهود السياسية لإحلال السلام في اليمن بالإضافة للظهور الإعلامي بالشكل الإنساني من خلال تعهدات مالية لتخفيف المعاناة الإنسانية . وعلى صعيد إدارة الملف خارجياً فيتضح الدور البريطاني من خلال التحرك في مسارين، الأول داخل الأمم المتحدة ومجلس الأمن من خلال تصدرها لتقديم مشاريع القرارات والبيانات التي لاتخدم عملية السلام في اليمن بالشكل المطلوب، أما المسار الثاني فيتضح من خلال التحرك الإقليمي والدولي لإنجاح مهمة غريفيث ،وتقديم الدعم السياسي في المحافل الدولية للنظام السعودي الذي يقود تحالف العدوان على اليمن. فعندما يقوم وزير الخارجية البريطاني جيرمي هنت بزيارة عدن في مارس 2019 بعد إنقطاع دام 23 سنة من أخر زيارة لوزير خارجية بريطاني لليمن،ويُصرح بأنه أول وزير خارجية يزور اليمن، منذ بدء الحرب ،فهو بذلك يؤكد القيادة والإدارة البريطانية للملف اليمني.
غريفيث مبعوث أممي أم مندوب سامي
رغم كونه مبعوث أممي إلا أن مساعيى مارتن غريفيث في إحلال السلام في اليمن لاتُعبر في حقيقتها عن إرادة دولية لأعضاء الأمم المتحدة البالغ عددهم 193 دولة، فعلى سبيل المثال لم تتمكن إرادة هذه الدول مجتمعه من إيقاف قرار الرئيس ترامب عام 2018 بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس، رغم تصويت 128 دولة ضد قرار ترامب ،ومع ذلك نُقلت السفارة،كون قرار التصويت غير مُلزم، بل أن مساعي غريفيث أيضاً لاتعبر بالضرورة عن إرادة الدول دائمه العضوية في مجلس الأمن الدولي، فقد تم الغزو الامريكي-البريطاني للعراق عام 2003 رغم، رفض روسيا وفرنسا والصين ،فكان الغزو معبراً عن إرادة الكونجرس الأمريكي ومجلس العموم البريطاني اللذان إتخذا قرار الغزو. لذا فعندما تُعبر صنعاء عن عدم ارتياحها للأداء غير المهني الذي طغى على تحركات ومساعي غريفيث لاسيما في الآونة الأخيرة مع التلويح بإعادة النظر في التعاطي معه، فهي في حقيقة الأمر لا تُعبر إلا عن رفضها للهيمنة والإملاءات الأمريكية-البريطانية تحديداً ، لذا تتطلع صنعاء لدور فعال لدول كُبرى كروسيا والصين في إطار يضمن مصالحها في المنطقة واليمن،وأن لا يظل الملف اليمني يُراوح مكانه بين المطرقة الأمريكية والسندان البريطاني وبمظلة أممية لذا،لاتزال معطيات المساعي والجهود التي تقوم بها الأمم المتحدة ومبعوثها غريفيث تعطي مؤشراً بغياب الإرادة الجادة للدفع نحو إستئناف مفاوضات الحل، وإنهاء العدوان ورفع المعاناة الإنسانية ،ولعل أبرز جوانب فشل المنظمة الأممية ومبعوثها لليمن مايلي:-
– عدم إعطاء الملف اليمني حقه من الإهتمام الذي يتناسب وتداعياته السياسية والأمنية إقليمياً ودولياً ،بالإضافة لتداعياته الإنسانية الكارثية التي كانت تستوجب قراراً دولياً مبكراً وأكثر وضوحاً، يُلزم تحالف العدوان برفع حصاره الشامل المفروض،بالإضافة إلى عدم إتخاذ المبعوث الأممي مواقف واضحة وصريحة تجاه إنتهاكات تحالف العدوان المتكررة لمنع دخول سفن المشتقات النفطية.
– قصور مهنية وحيادية المساعي التي يقوم بها المبعوث الأممي غريفيث ،حيث ظهرت العديد من مواقفه متماهي مع المواقف الأمريكية والبريطانية الداعمة لتحالف العدوان بقيادة النظام السعودي، وما قضية خزان الناقلة صافر إلا مثال حاضر.
– فشل الرعاية الأممية لتنفيذ إتفاق إستكهولم،حيث لم يُنفذ الجانب الإنساني، فيما تعثر الجانب السياسي والعسكري.
– غياب التعاطي الجاد مع مقترحات ومبادرات الحل التي قدمتها حكومة صنعاء للأمم المتحدة وكان أخرها المبادرة الوطنية الشاملة لوقف الحرب وإحلال السلام التي سُلمت للأمم المتحدة في شهر إبريل الماضي.
– ممارسة الإبتزاز على حكومة صنعاء من خلال ربط ماهو سياسي بما هو إنساني في تجرد مطلق عن القيم الإنسانية وإنتهاك الأمم المتحدة لقراراتها ذات الصلة وللقوانين الدولية الإنسانية.
– إنخراط المبعوث الأممي بلقاءات ،وإجتماعات كثيرة مع أشخاص وفئات غير ذات صلة مباشرة بعملية المفاوضات وإتخاذ القرار،مما يعطي إنطباع بتشتيت وتمييع الملف اليمني وإطالته،كما يعكس عدم الخبرة الكافية للمبعوث.
– تجاهل المبعوث الأممي في تحركاته لمستجدات ومؤشرات الإخفاق العسكري والسياسي لمختلف الأطراف المعنيه بالعدوان على اليمن وفي مقدمة ذلك الوضع المخزي لحكومة هادي والتشظي الحاصل في الجنوب ،مع تجاهل ما أضحت عليه صنعاء من صدارة عسكرية وسياسية تُحتم أخذها بعين الإعتبار.
ختاماً، تُدرك صنعاء جيداً حقيقة أن بريطانيا طرف رئيسي في العدوان على اليمن، فالدعم العسكري الحيوي الذي تقدمه بريطانيا لإستمرار العدوان وجرائمه على اليمن يُقوض الإدعاءات الزائفة حول دفاعها عن حقوق الإنسان،كما يُعري المساعي السياسية والدبلوماسية التي تقوم بها لإحلال السلام في اليمن،والتي في حقيقتها لاتزال مساعي في إطار إدارة الملف وليس إيجاد الحل، ورغم ذلك ظلت صنعاء تمد يديها لكل جهود السلام ،وتتعامل مع غريفيث على أنه وسيط أممي تقتضي مهمته المهنية والحياد، وعدم تلقي التعليمات من لندن أو واشنطن ،وليس مُلزم بشطحات نظام آل سعود .
يتطلع اليمنيين لبصيص أمل بأن تُكلل التحركات الأخيرة للمبعوث الأممي بالوصول لإتفاق مشترك لوقف لإطلاق النار، وتوافق الأطراف على مجموعة من الإجراءات الإنسانية والاقتصادية تمهيداً للإستئناف العاجل للعملية السياسية وصولاً للسلام، ومع ذلك فقد أضحت صنعاء أكثر إيماناً بأن الصمود والتضحيات الجليلة للشعب اليمني العزيز لأكثر من خمس سنوات يستحيل معها القبول بأي نوع من أنواع الإنتداب والوصاية ،أو القبول بمارتن غريفيث على غرار بول بريمر،كما أن إطالة أمد العدوان والحصار لن يُثمر إلا مزيداً من الصمود المعزز لقيم الحرية والكرامة، ورفض الوصاية، ويصنع يمن قوي يملك قراره.
كاتب ودبلوماسي يمني