الحقيقة الهاربة انتحار الحقيقة وصولة القول الهزيل

إب نيوز ١١ سبتمبر
ادريس هاني

الأسوأ في ثقافتنا أنّها باتت خاوية المضمون، اتسعت رقعة التّفاهة، زمن مهدور بتداول عام للجهل، جودة المعروض خفيضة والذوق يعانق الحضيض، والكل زعيم في التناطق ببُنيّات الجهل..
بيروت أجمل، ما الجديد سيد ماكرون ، لكنها جميلة بمقاومتها، وأمّا فيروز فقد تغنّت برجال المقاومة ولا تحتاج بيروت حتى تكون جميلة الى وعد ماكرون ولا رأي العبيد. حين يصب الاحتلال حمما فوق بيروت ويدمر ويخرب لا نسمع لأولئك أنينا ولا تأمّلات استيتيقية.
لا أثق في مشاعر أزمنة التضليل، لا أثق في أحكامكم ولا في تفكيركم، كم رأينا خلال العشرية الأخيرة من دموع التماسيح وعواطف جيّاشة كتلك التي سالت “لخاطر الإخوان” وسلالتهم على الشعب السوري في برنامج ثقيل ومنمّق لقلب الحقائق ثم لم نجد عينا من تلك العيون الماكرة والعواطف الخادعة تبكي جثث أطفال اليمن ولا جثث أطفال فلسطين. إنهم عودونا أن نعقد شهر عسل مع عواطفنا فقط حينما يتعلق الأمر بوجهة نظر بترو-دولارية في هذا المشهد أو ذاك، لاحظ حتى لا يخدعوك هل تتجرّأ العيون على البكاء حين لا يتعلق الأمر بجيوبوليتيكا النّفط؟
ثعالب في مشاعرهم، لا يصدقون في شيء، لهم القابلية لتحريف التاريخ حتى ذلك الذي يجري بين أعيننا. لئن كذبتم في تاريخ لم نعشه فلن نسمح بتحريف الحاضر. هل رأيتم تاريخا يحرّف جهارا؟ نعم، ذلك لأنّ ثمن التحريف غالي والعبيد ملؤوا الدنيا والانتهازية تغلبت على المشاعر الإنسانية.
تاريخ الحاضر نقرؤه جيدا، بل نعيشه جيدا، بل نبلغ تفاصيله جيدا، ولن تتكرر عملية التحريف التي تأكد اليوم كيف يُصار إلى الإلتفاف على الحقيقة لتحريض الطغام وتحفيز العبيد. نقول هذا لكبار من تفكّر فبالأحرى الجراء التي تتهجّى حروف العُواء. إننا في زمن التسطيح المقرف، حتى سقط متاع مفكريهم المغشوشين يندى الجبين بتكرار قرفهم. لا أخفي استقرافي لهذا المشهد، ولا أخفي أنّهم سيان مثقفيهم السابحين في المياه العادمة للأفكار المستعملة و”شمكارييهم” المدمنين على السيلسيون -، فالطبائع واحدة والأفق واحد والغريزة نفسها، ولا يغرّنك التمظهرات الممسرحة الفارغة غير المتأصّلة في حبّ الحقيقة ومروءة الفرسان، فاحذر أن تصاب بمخاطهم قبّح الله فكرهم وأذواقهم.
التاريخ يحرف من تحت أرجلنا وبوقاحة، حتى التطبيع بات فهلوة وشطارة، حتى العمالة باتت حكمة، حتى التّفاهة صارت سياسة. وتتورم المغالطة لتصبح نباحا في غير محلّه واستهتارا بآخر ما تعرضت له الكرامة والسيادة من نزيف.
لا شيء يرضي العبيد لا حقائق التاريخ ولا ارتجاجات الحاضر لأنهم بُهم لا علامة فيهم فارقة ولأنهم كالبهيمة همّها علفها، ولأنهم غير معنيين بالحقيقة فبأي شكل عرضت تلقفوها بشرط أن تكون مطية للحظوة والغلال. لا أهمية لثرثرتهم المنمّقة، فسوق استعارة أدوات التزييف باتت رخيصة، وليس هناك أرخص من ضمير يساوي ثمن قنينة جعّة أو إكرامية أو ربما لاشيء سوى شفاء غليل النذالة.
كقطعان العبيد يصرخون خلف الأسياد حتى ولو لم يكن لهم من الغلال نصيب، يتسابقون ويتنافسون حول من يكون الأسبق في الإلتفاف على الحقيقة والإبداع في أشكال الزّيف الممكنة. نحن أيضا داخل سوق لخردة الحقائق والأدوات المستعملة لتقويض الصّواب. إصرار مسبق للانتقام من ضمير أضرب عن الحقيقة حتى هزُل.
لا أسوأ من افتعال النقاش حول بديهي، بل الأسوأ افتعال حجاج من دون وجود طرف مُحاجج، وذلك من مهلكات الدّماغ والمعنى. التخلّف يكمن في تكرار السؤال وتكرار الجواب، والأسوأ هو اعتماد سرقة الإستشكال ونفش الريش خارج حلبة الحجاج، هذا لم يعد يسمى عقلا بل آلية لتفكّك المعنى والتباس الحقيقة.
التشريح اليومي للخطاب متحاذقه وأهوجه يؤكد أنّ مقاصد المتناطقين هي تنفيس عشوائي للجهل المركب والخواء، لا شيء هنا يشير إلى أنّ الحقيقة تهمّ أحدا، رؤوس الحجر وطبائع الهوامّ ومقاصد أم الأربعة والأربعين مع الاعتذار للبكماوات اللتي تقوم بوظيفتها على أحسن وجه بخلاف الرداءة فهي بشرية بامتياز.
عاد الأمر كما بدأ وتحيون الكائن بعد بجاحة خادعة بعقل لم يملك منه سوى مسمّاه، تراكمت مظاهر البهيمة حتى تضبّع الكائن وبات في وارد عقلنة ضُبوعته وتضبيع العقل بالقدر الذي تتساوى فيه الآراء فيُصار إلى حلبة صراع الدّيكة: جدال فارج بلا قواعد ولا مقولات منظمة، سيصبح المشهد وحشيّا إلى أقصاه، وهو أمر مخطّط بمكر عميق وليس منه لصغار العبيد سوى مهرجان النباح الجماعي. سوف تعاني الحقيقة كثيرا وستزدهر مزارع الضّباع من حول المدينة، وسنتذكر أبياتا للسّيّاب من المومس العمياء:
الليل يطبق مرة أخرى، فتشربه المدينه
والعابرون، إلى القرارة… مثل أغنية حزينه.
وتفتحت كأزاهر الدفلي، مصابيح الطريق،
كعيون “”ميدوزا””، تحجر كل قلب الضغينه،
وكأنها نذر تبشر أهل “”بابل”” بالحريق
من أي غاب جاء هذا الليل؟ من أي الكهوف
من أي وجر للذئاب؟
من أي عش في المقابر دف أسفع كالغراب؟
“”قابيل”” أخف دم الجريمة بالأزاهر والشفوف
وبما تشاء من العطور أو ابتسامات النساء
ومن المتاجر والمقاهي وهي تنبض بالضياء
عمياء كالخفاش في وضح النهار، هي المدينة،
والليل زاد لها عماها.
1/9/2020

You might also like