مستقبل المادّة والمهام التّاريخية للعقل

ادريس هانيإب نيوز ١٣ سبتمبر
ادريس هاني

وجب التمييز بين حقائق المادة والأيديولوجيا المادّية، لا ننسى ونحن في المرحلة الانتقالية كان لا بدّ من الإعلان عن انتصارات حاسمة في جدل العقل والواقع، المادة والمثال، كان من شأن المادية كالمثالية أن تتحدّث عن قطائع حاسمة، لكن القول في المادة لم ينته في كل الحقول المعنية برصد أسرارها وقوانينها، إنّ المادية بالأحرى إن كنّا منصفين فهي مشروع لم ينجز، هذا ناهيك عن أن النقاش في العقل والفاهمة لم ينته بعد أن بلغ ذروته في المثالية الألمانية. وكان قدر بلوغ المثالية النقدية أوجها مع كانط والجدل العقلي أوجه مع هيغل أن تبدأ مسيرة الانقلاب ليبلغ الفكر الألماني في دورته الثانية أوج المادية.
والمادية القديمة كالمثالية القديمة امتحت من معطيات العصور السابقة ومخرجات العلم الكلاسيكي فكانت بتعبير غاستون باشلار مادية ساذجة وبالية وثقيلة، بل حتى بعض المثاليين الذين اعتقدوا أنهم انتصروا عليها إنما هم في نظر باشلار قد انتصروا على شبح قديم للمادة إن نحن قارناه بوضع المادية العلمية اليوم. والحل؟ يكمن الحل بشلاريا في ضرورة اكتشاف مادية المادة بعد أن دخلت المادية نفسها في عصر العقلانية النّشطة. ما يؤكد أن المادية لازالت مشروعا لم ينجز ما حدا بباشلار إلى الإعلان أن علم المادة هو علم مستقبلي.
ليست المثالية وحدها المعنية بتطوير نفسها بل المادية أيضا، على أن نأخذ تلك المؤاخذات البينية في ذروتي المثالية والمادية الجرمانيتين على أنه تراشق بين أفهام تتحكم فيها شروط عدم اكتمال المرحلة الانتقالية. وحيث بدأنا مرحلة التواسط بين الذروة والذروة فإن العلم المادي الجديد حقّا قد يضعنا أمام مفهوم أكثر عقلانية للمادّة كما من شأن التأمّل في وضعية العقل في مسار هذه التجربة من شأنه أن يبرح الخصومة التي فرضتها حالة الذّروة والقطيعة والعجز عن تمثل الموقف العبر-مناهجي وشحّة المعطيات وصدمة الميكانيكا الكلاسيكية الصلبة قبل الثورة الكوانتيكية وبروز شكل من جدل الحضور والغياب في تقدير المادة في الفيزياء الجديدة. وحتى اليوم تبدو المثالية أصلب من العلم المادّي، حيث ورثت المثالية الكثير من مظاهر المادة الصلبة والثقيلة ولساذجة أيضا.
تضعنا الأسرار حديثة الاكتشاف في عالم المادة الـ”تحت – مجهرية” وتأمّل منطق حضور وحركة وانطفاء الجزيئ ومنطق المادية اللاّمرئية في عالم النانو على عتبة فهم جديد للمادة وبالتالي على عتبة مهام أخرى للمثالية التي أقصاها عصر المادية الماكروسكوبّية. لم تعد المادة في صقعها تحت-مجهري ترصد عيانا بل ترصد من آثارها وتوقعاتها وأحيانا تنخطف وتتلاشى بين محاولات الأقيسة مما يجعلها حقائق احتمالية وتوقعية ولاقياسية.
ما سميناها بالرشد العقلي المستوعب للمادية والمثالية معا في قالب لا زال قيد التحضير ليس لصعوبة إدراك هذه الفدلكة الفيزيائية وإنما لسبب عملي يتعلّق بالزمن الضروري تاريخيا لاستيعاب هذه النقلة.
مستقبل الفلسفة هو حوار مفتوح وبنّاء بين المادية والمثالية في أفق الاندماج والتركيب الخلاّق بعيدا عن هواجس القطيعة والذروتين. وهذا أمر لا يمكن أن تُحمل جريرته للفلاسفة الذين هم تعبير عن صدى عصرهم بل مردّه إلى مسار العقل في تقلّبه التاريخي من الذروة إلى الذروة قبل البدء في النزول إلى مرفأ التواسط الاستيعابي والمحيط بسائر المساحات الترددية التي قطعها العقل. فليس أمام العقل اليوم سوى الإلتفات إلى مهمّته التاريخية التي بها سيوسع من آفاق إدراكه لوظيفته وللعالم وكذلك إدراك موقعه التاريخي اليوم من حيث أنّ غايته تحقيق التواسط والاستيعاب أي الرشد بعد أن قطع كل المسافة بين الذروتين.
ولا زلت أرى أنّ الذهول آخذ بأعناق المشتغلين على القول الفلسفي، غير آبهين بالمهمة التاريخية التي يفرضها شرط الهبوط إلى مرسى التواسط الاستيعابي، فلا زالوا مأخوذين بالقطائع وتسلّق الذّروات، ما يعني أن المشكلة اليوم ليست فلسفية بقدر ما هي مشكلة وعي تاريخي بمهام الفلسفة.
ولقد كان همّ الفلاسفة تفسير العالم وبات المطلوب صدرائيا وماركسيا أن يكون الاهتمام بتغيير العالم، والحال أنّنا لم نجتاز عتبة الفهم ولا دخلنا مرحلة التغيير فكل ما جرى حتى الآن هو تفاعل القول مع المحيط وارتجاجات في الواقع والفهم، لأنّ تاريخ العقل قاضي ببلوغ الرّشد، وخلال هذا المسار ستواجه البشرية الكثير من الجروح والهنات والاخفاقات لكنها ماضية نحو الذروة التي تسبق لحظة الاستيعاب، لنقل إن العقل حتى اليوم يعيش حالة الحيرة التي تفرضها وعثاء السّفر.
حين ندرك ما طرأ على المادة من تطوّر وعلى العقل من أنماط سندرك أنّنا كنّا نتحرك كالطفل في كل اتجاه، فمسيرة الذروة تفرض كل أشكال الحماقات، والجينيالوجيا هنا تبقى تاريخا للتسلية لأنّ ذاكرة العقل وتاريخه محفوظة ومستوعبة لكل تفاصيل هذا المسار الطويل. ففي مرحلة التهيّؤ للنزول( l’atterrissage) يكون التشبت بأحكام قيمة ليس مناسبا، فللصعود قواعد وللتحليق قواعد وللنزول قواعد. يشبه النزول هنا ما يسميه أهل العرفان بقوس النزول وخاصيته الاكتناز بمعرفة مستوعبة لكل هذا المسار في السفر العقلي، هو نزول يتلبّس بمفاهيم النزول لكنه يشمل مضمونا ناضجا في المعرفة.
الوعي التاريخي بحتمية النزول الحاكي عن كمال السفر العقلي هنا يجعلنا في أمس الحاجة لتغيير عاداتنا في قراءة الظاهرات وتأمّل الأشياء وسياسة المفاهيم، فلا شكّ أن الفلسفة هي تدبير المفاهيم لكن ثمة ما هو أهم في رحلة العقل ألا وهو محطّة الرّسوّ الأخيرة. فالعقل حين يخطئ هذه المهمة يترنّح في مهام تاريخية متجاوزة ويصبح هو الآخر عنصر تشويش على مخاض الولادة المتوقعة للعقل الجديد.
ادريس هاني:22/9/2020

You might also like