{وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ}

إب نيوز ٢٧ أكتوبر

*رجاء اليمني

لقد سقطت البلاد العربية في مستنقعات الفساد ردحًا طويلًا من الزمن، واستضعَف المفسِدون شعوبهم؛ فأسرفوا في التعدي على حرمات الدين وحقوق المجتمع وكرامة الإنسان.
من هنا لابد من البحث عن سباب الفساد في الأمة قال تعالى *{وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ}*

السوس يأتي من المفسدين ويلفت أنظارنا الله سبحانه وتعالى كيف يسري السوس في الأمة من جميع جوانبها وينخرها إلى أن يدمرها ويقضي عليها.

فالفساد تعرفه هو إختلال الإعتدال وإختلال قوام الحياة الصالحة وإفسادها.

السوس هو النخر وهي حشرة صغيرة تنخر الخشب الأثاث الفرش من الداخل فيصبح هشاً.
إذا الفساد يأتي مباشرة وأما السوس فينخر قليلاً قليلاً. ينخر المجتمع بفكرة، بكلمة وبحركة تخرب الأسرة وتقضي على حضارات الأمم.

فقد تواترت النصوص الشرعية في الكتاب والسُّنة في الحديث عن الفاسدين والمفسدين، وبيان صفاتهم وأماراتهم؛ ليكون الناس على بيِّنة من أمرهم؛ فيحذروهم ويدركوا العقلية المنحرِفة والموازين المضطرِبة التي يتعامل بها أولئك المفسدون مع غيرهم.

وقد تكاثر هؤلاء المفسدون في عصرنا الحاضر، وتعدَّدت راياتهم، وتفننوا في ابتكار صنوف الفساد والإفساد في كل الميادين. وكان وجودهم من الأسباب الرئيسية لتخلُّف الأمة وتردِّي مكانتِها؛ من أجل ذلك كان من الواجب علينا أن نتدارس صفاتهم بيانًا للحقيقة، وإيقاظًا للأمة، وتحذيرًا من تغوُّل المفسدين وطغيانهم في البلاد.

ومن أبرز الصفات التي جاء بيانها في القرآن الكريم:

*الصفة الأولى: العلو والاستكبار في الأرض*

فالعلو والطغيان والاستكبار في الأرض صفات ملازمة للمفسدين، كما قال تعالى: *{تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}* [القصص:83] وبضدها تتبين الأشياء، وكما قال سبحانه: *{وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ . الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ . فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ}* [الفجر:10-12].

ومن علامات هذا العلو والطغيان:تطاوُل المفسدين على الضعفاء وانتهاكُ كرامتهم والتعدي على حقوقهم، كما قال جلّ وعلا: *{إنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ}* [القصص:4].

*الصفة الثانية: زخرفة القول بالباطل*

فالمفسدون يتدثرون بحلاوة اللسان وزخرفة القول بالباطل، ليخدعوا الناس، ويلبِّسوا عليهم بتغيير الحقيقة ونكران الواقع، وادِّعاء الرأفة والرحمة بالخلق *{إنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ}* [غافر من الآية:26].

وربما عقدوا الأيمان الكاذبة إمعانًا في التلبيس والكذب، ولقد زادت قدرتهم في الخداع، والتلبيس بتعدُّد وسائل الإعلام المعاصرة التي أسهمت في تزييف الواقع وخداع الرأي العام. قال الله عز وجل: *{وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ . وَإذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ}* [البقرة:204-205].

والبصير الفطِن يُدرِك حقيقة هذا التلبيس، ولا تنطلي عليه تلك الزخارف والألاعيب المكشوفة، كما قال سبحانه وتعالى: *{وَلَوْ نَشَاءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ}* [محمد:30].

*الصفة الثالثة: الصدُّ عن سبيل الله*

فحال المفسدين الذين يُزيِّنون للناس الباطل ويصدونهم عن سبيل الحق، كمثل قطَّاع الطرق الذين يعترِضون سبيل الناس ويسعون في الأرض فسادًا. قال تعالى في وصف هؤلاء المفسدين: *{وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إذْ كُنتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ}* [الأعراف:86]، وقال فيهم جل وعلا: *{الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ}* [النحل:88].

وطرائق المفسدين في الصدِّ عن سبيل الله تعالى تتنوَّع وتتجدَّد بتجدُّدِ الأماكن والأزمان، ويجمعهم وصف الله لهم في قوله جل شأنه: *{وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ}* [لقمان:6]، وكذلك وصفهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله: *«دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها»*.

*الصفة الرابعة: الغِش والخيانة*

غِش الأمة وخيانتها صفة ملازمة للمفسدين في جميع العصور والأمكنة؛ لأنهم لا أمانة لهم. ولهذا تراهم يتساقطون في دركات الخيانة وغِش الأمة والمجتمع، لتحقيق مصالح شخصية مزعومة، وما أسهل أن يبيع المفسد دينه ويخون أمته!

قال الله تعالى مُبينًا لونًا من ألوان الغِش الذي يتميز به المفسدون (وهو الغش الاقتصادي): *{أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ . وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ . وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ}* [الشعراء:181-183].

وقال جل وعلا: *{وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ}* [هود:85].

وسياسة الكيل بمكيالين وبخس الناس أشياءهم: سياسة متجذِّرة في أخلاق المفسدين (السياسية، والفكرية، والثقافية، والاجتماعية).

*الصفة الخامسة: إشاعة الفاحشة*

من مخازي المفسدين أنهم يسعون لإشاعة الفاحشة في المجتمع، ويؤسسون مراكز ونوادٍ لنشر المنكر، وإفساد الأخلاق والقيم الاجتماعية بلا حياء ولا خجل، وتأمَّل حال كثير من القنوات الفضائية لترى كيف يلهث أولئك المفسدون لإشاعة الفواحش وتحطيم القيم ومحاربة الفضيلة.

قال الله عز وجل: *{وَلُوطًا إذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ الْعَالَمِينَ . أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إلاَّ أَن قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ . قَالَ رَبِّ انصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ}* [العنكبوت:28-30].

*الصفة السادسة: انقلاب الموازين*

من مخازي المفسدين وسوءاتهم أنهم يقِلبون الموازين، ويزيفون الحقائق، ويُسمُّون الأمور بغير مسمياتها؛ ولهذا قال الله عز وجل في وصفهم: *{وَإذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ . أَلا إنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ}* [البقرة:11-12]، وهذا من تقليب الأمور الذي جاء بيانه في قوله تعالى: *{لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الأُمُورَ}* [التوبة:48].

وتأمَّل العقلية الفرعونية الطاغية التي تتجدد في كل عصر وتجتهد في قلب الحقائق؛ فقد قال الله عز وجل عن أحد الفراعنة: *{وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ}* [غافر:26].

ففرعون ها هنا يزعم أنه يحافظ على دين قومه من تبديل موسى عليه الصلاة والسلام أو إظهاره الفساد في الأرض! وهكذا هي سُنة المفسدين في كل عصر، يعترِضون طريق المصلحين ويُشوِّهون صورتهم، ويزعمون أنهم وحدَهم الدعاة إلى الإصلاح والنهضة في المجتمع، على الرغم من أن مشروعَهم في الحقيقة لا يعدو أن يكون إفسادًا للمجتمع وتشويهًا له.

ولهذا كان واجب المصلحين حقًا أن يواجهوا أولئك السفهاء، ويبصِّروا المجتمع بمخازيهم، امتثالًا لقول الله جل وعلا: *{فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ ۗ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ } (هود-116)*

You might also like