يوميات كاتبة… 1

إب نيوز ١٢ نوفمبر

كالعادة كان يومٌ متخمًا بالصخب، يومٌ يعب بالتعب والضيقة والضجر، لارغبة لي بالكلام مطلقا، فضلت في ذلك اليوم المشي وحدي دون مرافقة أحد؛ كوني أميل للعزلة في أقسى أيامي وجعًا، وأنا في جادة الطريق كنت أشعر أن قدماي بالكاد تتزحزح من وكرها، يمر الجميع من صوبي ولا أشعر بحثيث خطاهم حتى، واصلت المشي بصعوبة في عمق الظهيرة، وكأن أغلال أشعة الشمس تطوقني وتشلني عن الحركة، كنت أرفع رأسي لا لشيء، وإنما لأتأكد هل وصلت؟.أو بالأصح لأرى كم الهوة التي تبعدني عن منزلي؟ إلا أن وقفت دون علمي على أعتاب مقبرة القرية، والتي لاتبعد عن منزلي كثيرًا.

حملت نفسي للجلوس على ظهر الصخرة، ومنها وقفت أتأمل كينونة الحياة بتمعن، أتسكع بين دهاليزها، بعد دقائق من الإجالة والنظر، سمعت نشيجا مكتوما في أيسر صدري، إنه قلبي، قلبي الذي منذُ مدة تغيبت عنه، إزاء مشاغلي وضيق وقتي، كان يود البكاء، ولكني حجزت أنفاسه، خفت أن يشمت بدموعي أحد الأحياء أو الموتى، علاوة على ذلك تذكرت توصيات جدي الراحل، وكيف أن دموعي كانت تؤلمه وتقلق يومه، آثرت الصمت رغم شدة حاجتي للبكاء، وغدوت لمزار أحبائي الراحلين.

كانت أشعة الشمس تلفحني بضراوة، ولكن المشهد أضحى سيد كل شيء. مررت بأكثر من قبر، ووصلت لضريح جارنا الأثير، الذي رحل قبل عشرة أعوام ونيف، كان طالب في الجامعة، يجيد فن الرسم بجدارة، فله أنامل يتقاطر منها الإبداع الذي يعصى على الشرح والتوصيف، والكل يشهد بذلك، ولكن براثن الموت نهشته على حين غرة، توفي فجأة، وترك فرشاته، وأقلامه ومعدات تلوينه، وكل شيء في لمح البصر، وكأنه لم يكن.

بعد ذلك علقت رسماته الماتعة، وتم اقتناؤها لمعارض الفنون، والآن أقف على عتبه داره، وأسأل نفسي، ما الذي يعمله الآن في قعر هذه الحفرة، هل لازال يمارس موهبته كما كان؟ أسئلة جمة تربعت على أريكة فكري، فكرت بعدد الأيام الذي عاد بها إلى منزله ضيق الصدر، مضمحل البنية كنفسي، وكم عدد المرات التي عاد فيها مسرورا جذلا وكم تحمل وعثاء الطريق للوصول إلى حلمه المنشود وهكذا.

بعد ذلك اتضحت لي الرؤية أكثر عن حقيقة هذه الرحلة، وأننا بلحظة ضاربة سنكملها وسيتوقف قطارنا كما توقف قطار هؤلاء الجموع، سيختفي موطن أحلامنا، سينتهي ترحنا وفرحنا، سنرحل وحينها سنعلم كم كنا سذج حين منحنا الحياة اهتمامًا وتقديرًا أكثر مما تستحق. ولكن يبقى السؤال؟ ماذا أعددنا لهذه الرحلة؟

وأنا أغوص في بحر الإجابة إذ بصوت أختي الصغيرة يقاطعني بهلع وخيفة، هرعت إليّ قائلة: -أختي أمي تتصل بك من حوالي نصف ساعة بينما لاتردين عليها، خافت من ذلك فليس من عادتك التأخر، عموما وجبة الغداء في انتظارك، والكل ينتظر عودتك لنذهب، مسكت يدي بحرارة، وجرتني بصعوبة لأن أعود، بينما هي تجهل أنني فقدت شهيتي في الأكل والحياة معًا.

#رويدا_البعداني.

You might also like