شوق ما بين البعد و اللقاء
إب نيوز ١٥ ديسمبر
*خلود خالد الحوثي
يعود إلينا هذا اليوم من كل سنة، يومٌ تمرُّ الثواني فيه كسنة، يومٌ أُشرقت الشمس من المشرق، وغردت العصافير لحنُُ جميل يحملُ معاني خاصة لهذا اليوم، يوم ترتجف أغصان الأشجار فيه نتيجة لريح تهبُ لتخبر أفراد أسرتي خبرًا يجعل عقولهم وقلوبهم وجميع حواسهم مرتبطة بشخص عظيم، لديه صفات يمتاز بها أشخاص نادرين في هذه الحياة .
قمت بتجهيز ورقتي لأكتب عن صفاته، فإذا بها تنطوي لتنطق بقول: أنا لا أكفي من أجل كتابة هذا الكلام الذي في داخلكِ، ويتحدث القلم بعد أن استقام ذلك الاستقام الذي يحجب عنه الكتابة، ويقول: أنتِ تريدين أن تتحدثي عن شخص عظيم جعل كل دقيقة في حياته – بعد أن عرف طريق الحق- لله في سبيل إعلاء كلمة الله. فإذا بالحبر يسقط قطراته كقطرات المطر، ويقول بصوت حزين: أنا لا أستطيع أن أعينكِ في كتابة هذه الحكاية، فإني أتذكر صديقي الحبر الذي كان في قلم، وفي ذات يوم كتب بها ذلك الشخص الذي تودين أن تكتبي عليه كلام جميل وراقٍ، يدل على رُقي ذهنه وصفاء إحساسه، ورجاحة عقله، يشدكم إلى الله وإلى السير في طريق أعلامُ الهدى، وأن تجعلي أنتِ وأسرتك طريق الجهاد والاستشهاد عنوانًا لكم، وأذكر أنه أطلق عليها اسم (الوصية).
فإذا بذاكرتي تذهب إلى ذلك اليوم الذي أخبرونا بخبر عن أخي شقيق دربي، سند ظهري، عزوتي في هذه الحياة، أنه قد غادر عن هذهِ الحياة، وحلَّق بعيدًا، طار ولم يعلن موعد إقلاعه، غرد ولم يعلن تغريدة فراقه، ذهب ولم يعلن موعد رحيله، ولكنِ انتظرت لهم، لم يخبروني بيوم تشييعه، ويوم اللقاء به لتوديعه، أخبروني بأن هذا له احتمالين، الاحتمال الأول أن أخي حلَّق للسماء، ولكن لم يدفن جثمانه في روضة الشهداء، والاحتمال الثاني أن أخي مازال هنا يصارع معابر الشرك في أيدي أحقر الخلق .
انتظرت السنة الأولى لعليِ ألقى فيها طيفًا يُخبرني عن أخي، ومرت السنوات تلو السنوات واليوم يغلق العام الخامس أبوابه، ويعلن الرحيل ,ويفتح العام السادس أبوابه ويعلن موعد الصبر فيه, ولكن في العام الخامس ;عاد اليوسفيون إلى اليعقوبين ولكن لم يكُن يوسفنا بينهم من اجل أن يقر عين يعقوبنا أبي, في ذلك اليوم الذي اخبرونا بخبر اخي; شيدَّ والدي فيه صرح عظيم من الصبر, مهما حاولت أن تهز ذلك الصرح لم يهتز صبر ابي , وفي مرور الخمس الأعوام السابقة, وحتى الأعوام التالية , فأبي مثل الصبر, والإحتساب, والتوكل على الله , والثقة بان لابد من يوم أن يعود يوسف منزلنا الى حضنه سواء أن كان جثمانه ويُشيع تشييعًا يليق صبره على فراقه او أن يعود يوسف أسرتنا إلى حضنِ يعقوبنا ويعيد البصر إلى عيناه والنور والاطمئنان إلى قلبه .
وفي ذلك اليوم الذي عادوا فيه الموسويين إلى أحضان أمُهاتِه, الذي تركتهم امهاتهم في عهد فراعنة عصرنا, انتظرنا موسى أسرتنا أن يعود الى حضن أم موسى أمي ولكن لم يكن موسى أسرتنا منهم وفي ذلك اليوم الذي استقبلت أمي خبر اخي كان في نفس الوقت الذي استقبلت امي خبر وفاة امها ولكنِ ألقيت نظرةً إلى عينِ أمي ولم أجد إِلا صبر أم موسى عندما ألقت موسى في البحر وهي مُطمئنةً واثقةً بانه لابد أن الله يرد اليها إبنها , وبعد مرور خمسة أعوام وفي هذا اليوم تطل أمي على العام السادس, ولم أرى في قلب أمي ;إلا الثقة المُطلقة والتوكل التام بالله الذي سيمنحها يوم من الإيام بعودة اخي ,وهي متيقنة إنه ما قدم اليها من خبر على أخي سواء أن كان شهيد, او كان أسير ان الله معه ,وأن الله لن يترك عبده رشاد في يوم من الايام ;لأن رشاد لم يترك طريق البذل والعطاء في سبيل الله وإعلاء كلمته ونصرة دينه والمستضعفين .
وفي ذلك اليوم الذي ذهب فيه صديق طفولة أختي, لم أرى في وجه أختي إلا ملامح الإتكال على الله والثقة بالله ,و كنت أرى أختي تتبع أخبار أخي عن بعد لعلها تجد طيف شقيقها رشاد ,وهي كانت تنظر إلى صورة اخي ;ويعود إلى ذاكرتها مشاهد الطفولة والشباب الذي مضتها مع أخي التي تندمج معها العناد والمزح والشقاء, فهذا لابد من وجوده بين الاخوين, ولن تنسى أختي ابداً الإتصال الهاتفي الذي ودعت فيه صوت اخي, وهي الوحيدة الذي طلب منها اخي المسامحة في صباح ذلك اليوم; الذي ودع اخي العيش بين الجو الأسري لدينا; وفي هذا الحين مرت الايام والسنين وأختي تنتظر عودة جثمان اخي, او أي خبر يصلنا إلى اخي; لكي يرى أن حياتها تغيرت كثيرًا في غيابه ,وهي الأن تنتظر أن يعود اخي لكي يرى اولادها ويلاعبهم وأن يكون لهم الخال الحنون .
وعلى مدار الايام الذي غاب فيها شمعة الدار أخي, ذهبت اتتبع أخبار موسى أسرتي لعلي أجد طيف له; كما تتبعت ووجدت أخت موسى عليها السلام أخيها وذهبت لتخبر والدتها بمكانهِ, وكانت الوسيلة لإيصال موسى عليه السلام إلى أمها ,ولكنِ لم أجد له إلا طيف في ذاكرتي رسمتها معه بتلك الإبتسامة الحنونة ,والنضرة التي تشع الأمان ,ولكن في داخلي اعلم بإنه لابد من يوم وأجد أخي رشاد , وسيكون لقائي به يشيد ذلك الحنين والشوق! لذلك الذي غادر وترك في نفسي أن التقي به في يوم ما ,وسيكون ذلك اليوم إما وداع ابدي وانتقال اللقاء إلى روضة الشهداء, او اللقاء الذي سيخلد اللقاء الأبدي والوجود التام بالقرب منا وأجدد تِلك اللحظات التي تشع بالمواقف المشاكسة مع اخي رشاد.
وفي ذلك اليوم ;الذي لقي بنيامين النبي يوسف عليه السلام ;عاد البنيامين إلى اخوتهم اليوسفيون, ولكن بنيامين أسرتنا لم يعد; ليُجدد اللقاء بأخيه لم يعد رشاد إلى اخيه هاشم ;الذي نشأ بين يديه وتربى بين يديه, ولم انسى مقولة أمي لأخي رشاد عندما قالوا له: أنا لا يمكن أن اخاف على هاشم مادام رشاد بقربه, ولكن كلما انضر الى اخي هاشم وهو يلقي نضره الى صورة رشاد! يأتي في ذهني حين قال هاشم والله يا اخي رشاد إني لأجدد السير في نهجك وإني منتظر للأيام والسنين تمر عليَّ وأكبر واسير الجبهة وأخذ بحقك, وإلى اليوم يجلس هاشم يتحدث إذا عاد جثمان رشاد اخي سأذهب الجبهة, واثبت إني تربيت على يد ذلك الأب والأخ لي , وإن رجع اخي رشاد ;لن افارقه ابداً ولن اترك أي لحظة تمر من حياتي إلا واترك فيها بصمة الوقف بجانب اخي رشاد.
نعم هذا حال أسرتي الذي غاب عنها فرد منها كان لها السراج والنور والسند الذي يشدد به كل فرد لنا ونحن الان معلقين ما بين البعد واللقاء وهذا لن يزيدنا إِلا الصبر والإِحتساب والإِتكال المطلق والثقة بالله الذي هو أرحم من جميع الخلق .