التطبيع مع إسرائيل و أوهام السلام…

إب نيوز ١٦ ديسمبر

د. طارق ليساوي

أشرنا في مقال ” تحليل مثالب و مخاطر اتفاق التطبيع بين المغرب وإسرائيل …” على أن سعي الأنظمة العربية و من ضمنها النظام المغربي إلى الاعتراف و التطبيع مع الكيان الصهيوني ليس مجرد خيانة للشعب الفلسطيني و للشعوب العربية و إنما هو نوع من “الغباء الإستراتيجي “، فليس من المعقول أن  نعادي مليار ونصف مسلم، فعلى الرغم من تباين مواقف الحكومات في العالم الإسلامي تجاه الكيان الصهيوني، إلا أن الشيء المؤكد أن أزيد من مليار ونصف مسلم قلوبها مع فلسطين و شعبها. وكان بإمكان المغرب أن يحقق كسبا دبلوماسيا و استراتيجيا بالبحث عن بدائل أخرى غير المراهنة على الاعتراف “الترامبي ” و التطبيع مع الكيان الصهيوني، و من ضمن هذه الخيارات تعميق الإصلاحات الداخلية على المستوى السياسي و الاقتصادي و تقوية دولة الحق و القانون و توسيع الحريات العامة و محاسبة المفسدين و ناهبي المال العام و التوجه نحو تأسيس نظام لا مركزي ليس على مستوى الصحراء فقط، بل على المستوى الوطني، و السعي نحو إيجاد أرضية مشتركة مع الجزائر و باقي بلدان المغرب العربي بل و باقي البلدان الإسلامية ، فموازين القوى على المدى المتوسط لن تكون إلا في صالح الأمة الإسلامية الموحدة و المتضامنة، و لن يكون لهذا الكيان الغاصب أي وزن على المستوى المحلي و الإقليمي..

فقوة الكيان الصهيوني نابعة من ضعف البلدان العربية، و غياب دولة مركزية قوية و ديموقراطية بالمنطقة، تستطيع فرملة الطموح الصهيوني، و لعل الحرص على إجهاض تطلعات الشعوب العربية إلى الحرية و السيادة الوطنية و الحكم الصالح تصب في إتجاه ضمان هيمنة و تفوق الكيان الصهيوني …و هذا التوجه مدعوم من قبل أمريكا و باقي البلدان الغربية التي لها مصالح بالمنطقة و لها أنظمة عميلة تخدم أجنداتها …و تبعا لقوله تعالى : (و عسى أن تكرهوا شيئا و هو خير لكم، و عسى أن تحبوا شيئا و هو شر لكم ، و الله يعلم و أنتم لا تعلمون) (البقرة الاية 216)، فإننا ينبغي أن لا نصاب بالإحباط و اليأس مما يحدث، شريطة ألا نراهن على الطبقة الحاكمة الحالية و مؤسساتها المحلية و الإقليمية، فالخنوع و التكالب على حقوق الشعوب و الأوطان ليس بتيمة قطرية، و إنما هو قاسم مشترك بين مختلف حكام الإقليم العربي، و الجامعة العربية التي تشكلت لغاية أساسية، و هي تسهيل وجود إسرائيل و ضمان نشأتها و حمايتها ضد المقاومة الشعبية، كما أن  إسرائيل بدورها ليست الغاية، بل مجرد أداة لخدمة مصالح القوى الكبرى المتحكمة في مصير العالم، لأن إسرائيل هي امتداد لهذا المشروع الإمبريالي الغربي و امتداد لاتفاقية “سايكس- بيكو” التي أنشأت هذه الدويلات بعد أن كان لها رباط أقوى وهو رباط الخلافة الإسلامية و تم إستبداله برباط القومية العربية…

ونحن إذ نرى سعي أغلب الأنظمة العربية إلى عقد إتفاقيات التطبيع مع الكيان الصهيوني نتساءل أين هي الجامعة العربية ؟ ألم تشرف قبل ذلك على إطلاق “مبادرة السلام العربية”  في قمة بيروت؟ ، و التي وضعت كشرط للقبول بالتطبيع مع الكيان الصهيوني استرجاع أراضي 67 و جملة من مطالب الحد الأدنى ، فعلى الأقل السلام أو التطبيع مع الكيان الصهيوني يقتضي و تقديم تنازلات ملموسة من قبل الكيان المغتصب للأرض و العرض… لكن ما يحدث الأن من اتفاقيات هي تنازلات مجانية من جانب و احد ، و خاصة أن البلدان المطبعة لا علاقة لها بالكيان الصهيوني فهي لم و لن تشن حربا على هذا العدو، و لا حدود جغرافية لها مع أرض فلسطين التاريخية، و مع ذلك يتم عقد اتفاقيات سلام، أي سلام سيأتي من كيان إغتصب و طنا و شرد شعبا، و جرائمه في حق الشعوب العربية لا تعد و لا تحصى؟

المنطقة العربية بنظرنا ليست في حاجة إلى التطبيع مع العدو الصهيوني بغرض تحقيق السلام ، و ليست في حاجة للدخول في مواجهة مع إيران أو عداء تركيا ، مع العلم أننا لا يمكن أن نقبل بأي حال من الأحوال أن يتم وضع إيران و تركيا في نفس سلة الصهاينة، فالعدو الحقيقي للأمة العربية و الاسلامية هو الكيان الصهيوني و داعميه و أيضا العدو لهذه الأمة هم حكامها الخونة …وإذا أردنا تريب الأولويات فإن الأولوية الأولى التي ينبغي الإسراع بها هو مقاطعة هذه الأنظمة بكل الأشكال السلمية المتاحة، و بذل الجهد لإزاحة الحكام الخونة و المستبدين عن السلطة و التأسيس لحكم رشيد بالطرق السلمية، فالمرحلة تقتضي الاتفاق و الوفاق، بين مكونات  الشعوب نفسها ،فالصراعات و الخلافات بداخل الشعوب العربية أسهمت في إنفراد أقلية بالحكم و بالثروات الوطنية، خاصة و أن التطبيع مع الكيان الصهيوني جاء لحماية هذه الأقلية الحاكمة من غضب و إنتفاضات شعوبها…

فالواقع العربي لا يحتاج للتوصيف ، فالمنطقة تتجه نحو مزيد من التفكك و سفك الدماء ،  والسنوات العجاف تتوالى، بإستمرار أنظمة الفساد و الإستبداد، و أنظمة الخنوع و الإستسلام، و أنظمة العمالة و الهوان…و خلاصة القول، فإن  شعوب المنطقة ملزمة بإستئناف مسار التغيير السلمي للوضع السياسي و الإجتماعي  الإقتصادي الراكد، و عليها الضغط بإتجاه الإبتعاد عن   سياسة الأحلاف و التكتل لمجابهة المد الشيعي أو الشيوعي أو غيره…و الحرص على  تجنب سفاسف الأمور و التركيز على تغيير أنماط الحكم و الضغط باتجاه إقامة نظم ديمقراطية تعبر عن إرادة الناس ف “لاطاعة لمخلوق في معصية الخالق”، و هل هناك من معصية أكبر من التنازل عن القدس الشريف و عن أراضي إسلامية تم تحريرها بدماء المسلمين … فقضية القدس و فلسطين ليست مجرد قضية أرض و شعب و خبز و تسهيلات إقتصادية، و إنما هي قضية عقيدة بدرجة أولى، و من يتنازل عن القدس و فلسطين فهو يشكك في حجية و قطعية دلالة القران الكريم، و يكذب رواية إسراء رسول الله عليه الصلاة والسلام و إمامته للأنبياء بالمسجد الأقصى ليلة الإسراء،ويفرط في ثالث الحرمين و أولى القبلتين،  فالقدس و فلسطين تفدى بالغالي و النفيس لأنها قدس الأقداس في عقيدة أهل السنة والجماعة و عند الشيعة أيضا، و التفريط فيها لا يقل في إثمه عن التفريط في الحرم المكي أو الحرم النبوي…

فالأولوية الحقيقية التي تنتظر الشعوب العربية من المحيط إلى الخليج، هي وقف مسلسل الاستبداد و الانحدار للخلف، و الارتماء في أحضان الكيان الصهيوني و داعميه.. فكل الحكومات في العالم تسعى من خلال سياساتها و تحالفاتها إلى خدمة مصالح بلدانها و شعوبها ، بينما منطقتنا العتيدة حكامها يحاربون شعوبهم و يبذرون مواردهم خدمة لأجندات الغير، و هم لا يعلمون أنهم بذلك يوقعون على شهادة زوال سلطانهم، إذ لا يمكن لهذا الوضع أن يستمر طويلا فالحكام العرب تخطوا كل الحدود الحمراء و الشعوب فقدت  وعاء الصبر و دوام الحال من المحال و هذا هو منبع تفاؤلنا بأن القادم من السنين سيكون أفضل شريطة الخروج من حالة الصمت و السلبية المزمنة…و حسبنا الله و نعم الوكيل …

إعلامي و أكاديمي متخصص في الاقتصاد الصيني و الشرق آسيوي، أستاذ العلوم السياسية  أستاذ العلوم السياسية و السياسات العامة..

You might also like