أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يُبين
إب نيوز ٩ يناير
*محمود الخطيب
كلما قرأت قصص الجبابرة والمجرمين في القرآن أدركت أن قصصهم ما ذكرها وخلدها الله في كتابه إلا لديمومة الانتباه والتحذير من شخصيات مماثلة ستأتي من بعد أولئك الأولين، يكررون الأخطاء أو الأفعال والسلوكيات نفسها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
أبرز من يمكن الحديث عنه دائما ذاك الذي استخف قومه فأطاعوه، إنه فرعون موسى، ذاك الذي أوضح لنا القرآن بشكل دقيق صفاته وتركيبته النفسية، الذي – وإن غرق في اليم في زمن ما – مازال يظهر ويتكرر في كل زمان ومكان وفي هيئات وصور شتى، وهذه الأيام تثبت لنا ذلك بغطرسة هذا النظام السعودي الفرعوني الذي أبى أن يعترف بحجمه وأن زمان موسى والمستضعفين قد ظهر من جديد.
كان ذاك الفرعون نموذجا فريدا من البشر لم يكن قد ظهر قبله أحد بالعقلية التي كان عليها، وإن كان من بعده ظهر كثيرون. هذا الفرعون لم يكن سوى ممثل بارع أتقن الأدوار التي رسمها له وزيره هامان، وبعض آخر من بطانته السيئة، أصحاب المصالح والمنافع، الذين هالهم أن يخرج فتى فقير من بني إسرائيل، يحاول أن يوضح بعض خفايا وأسرار الأدوار التي كان يقوم بها فرعون وزبانيته.
ما كان يحدث في السابق من فرعون تجاه موسى – عليه السلام – يمكن أن نقول عنه بلغتنا المعاصرة إنه أستغفال للناس واستخفاف عميق بعقولهم عبر تمثيل بارع لأدوار متقنة من فرعون وزبانيته، من بعد توجيه مصادر المعلومات لتتحدث وتنطق بنفس العلم والكلام، حتى يعيش الناس ضمن إطار واحد من المعلومات، لا يرون أو يسمعون غيرها من معلومات. إنهم بالطبع لا يرونها ولا يسمعونها لأنها لا تصلهم بفعل السواتر والحواجز التي يكون الفرعون قد بناها، وأحكم قبضته وسيطرته عليها، كي تسهل عليه عملية الاستخفاف بالناس، من أجل أن تثمر بعد ذلك على شكل طاعة شبه عمياء له.
وهذا ما يحصل في هذه الأيام من محاولة النظام السعودي حتى طمس القنوات الإعلامية وأظهارها بشكل لائق للعالم الخارجي “وكأن لم يكن” ما يعملوا في هذا البلد المظلوم التي زيف العدو كل الحقائق، محاولا طمس هذه الجرائم، متبعين نظرية فرعون في ذلك وأن كثيرا من الناس لا تصلهم مظلومية اليمن بفعل تلك السواتر والحواجز وما نشاهده خير دليل على هذه النظرية الفرعونية..
إن استخفاف الطغاة للجماهير، أمر لا غرابة فيه؛ فهم يعزلون الجماهير أولا عن كل سبل المعرفة، ويحجبون عنهم الحقائق حتى ينسوها، ولا يعودوا يبحثون عنها، ويلقون في روعهم ما يشاؤون من المؤثرات حتى تنطبع نفوسهم بهذه المؤثرات المصطنعة. ومن ثم يسهل استخفافهم بعد ذلك، ويلين قيادهم، فيذهبون بهم ذات اليمين وذات الشمال مطمئنين!! ثم بعد ذلك يتصنعون أنهم من يجلبون الأمل..
أركان الاستخفاف:
عملية الاستخفاف، وحتى تكتمل وتكون فاعلة مؤثرة، لا تعتمد فقط على وجود ملك أو رئيس متجبر كذاب، بل هي عملية لا تكتمل إلا بوجود ركنين أساسيين. الأول هو كما أسلفنا، وجود فرعون متجبر كاذب ظالم جبار، يملك بقدرة قادر، مفاتيح القوى في سلطانه ويسيطر على زمام الأمور، هذا ركن أول. أما الثاني، فلابد من وجود شعب عنده القابلية للتعاطي مع عملية الاستخفاف، الأمر الذي نفهم من هذه الآية (فاستخف قومه فأطاعوه) إن فرعون استخف قومه، بمعنى وجدهم جهّالا سذجا، لا يحكمون عقولهم فيما يقع أمامهم من حوادث وظواهر، وإن فرعون “لقي ملأ لا معقول عندهم، فمهما قال اتبعوه، من حق وباطل”. وهذا ما ينطبق على معظم شعب البعارين، ومن يواليهم فقد، أتموا الركن الثاني للنظرية الفرعونية.
فرعون حين وجد قومه على هذه الشاكلة وتلك السذاجة، قام بزيادة جرعات التجهيل والتسفيه لعقولهم عبر وزارات الإعلام والدعاية الفرعونية، حتى وصل به الأمر إلى الزعم والادعاء أنه ربهم الأعلى، باعتبار أنه مالك لكل خيرات وأنهار مصر يومئذ، مقارنة بهذا الذي يقود حركة معارضة ضده، من فقراء وبؤساء -ويقصد موسى عليه السلام – المهين الذي لا يكاد يتكلم بلسان واضح مبين (أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يُبين)، فصدق الناس تلك الدعايات واتبعوه وساروا خلفه في ضلال مبين، وهذا ما يعمل عليه النظام السعودي فراعنة هذا العصر، من استخفاف غيرهم وعدم الاعتراف إلا بمن سواهم وما يحدث في هذه الأيام أصح دليل على عتوهم واستكبارهم بأكاذيبهم وأقوالهم وكل طرق التزوير كما استخف فرعون بموسى، وكما حاول أن يثبت للعالم من قومه أنهم عبيد لا سواهم، وأنه ربهم الأعلى.
ولو تأملنا الوصف القرآني الدقيق لأولئك السذج من قوم فرعون، يظهر لنا أن قابلية أي شعب للاستخفاف لا تأتي هكذا بين ليلة وضحاها، بل نتيجة فسق متراكم (فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين). ذلك أن أي طاغية لا يملك أن يفعل بالجماهير هذه الفعلة إلا وهم فاسقون لا يستقيمون على طريق، ولا يمسكون بحبل الله، ولا يزنون بميزان الإيمان، فأما المؤمنون فيصعب خداعهم واستخفافهم واللعب بهم ك
الريشة في مهب الريح، وما نرآه من فسوق في أطهر مكان على وجه الأرض، وبترويج فراعنة ذلك البلد يعيد ويوضح النظرية نفسها.
إن الخطورة الكامنة في قبول أي شعب عملية الاستخفاف، وعدم بذل الجهد للخروج من الإطار الذي يرسمه لهم أي فرعون، تؤدي بالضرورة إلى إطالة عمر هذا الفرعون أو الطاغية، وتتسبب في تعميق حالة البؤس في أوساطهم، وهم يحسبونها حالة طارئة ستزول، وفي واقع الأمر إنها لن تزول، بل إنهم هم أنفسهم، وبحكم الحقيقة القرآنية، معرضون للزوال والعقاب الإلهي “فلما آسفونا” أي أغضبونا وأسخطونا بأفعالهم “انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين فجعلناهم سلفا ومثلا للآخرين”.
*ويا لها من نهاية بائسة ذليلة*