حديث الروضات
إب نيوز ٣١ مايو
عفاف البعداني
هنا… أجد ملاذي عندما تضج بي الحياة، هنا…. أحط أشرعتي المكلومة وأجعلها تبوح وتسهب بحشود العَبَرات الهادئة، هنا…. أُطرق الرأس منحنيا، وأجد معنى وافيا للصدق والتضحية بعيدًا عن خزعبلات الإفتراء، هنا أنسى ادعاءات البشر بكلهم ، وأصاب بالزهايمر “اللحظي ” الذي يعيد لي الذاكرة بالوقت المحدد ومتى ما أردت، يسمونها مقبرة : وهي بالنسبة لي حياة ، هي بالنسبة لي أرواح طاهرة، تسمعني ولا أراها أحادثها والصمت يغشاها، نتبادل أطراف الحديث مع تلك الصور الساجدة في محراب الجهاد، فسبحان من سواها وجعل الشهادة كرامة لتقواها .
فحين وضعت الشمس أشعتها صباح هذا اليوم، خطوت ببطء نحو روضة الشهداء، أطمئن على أرواحهم النائمة، وصورهم الباسمة الملئ بأحاديث الحياة… ولعلمي أنهم يسمعوني، أخبرتهم كيف حالكم… أيها الشهداء ؟ هل صحيح مات الشعور بداخلكم أم أنه مازال يتنفس ، ويسمعنا دون أن ندرك ! هل اعتدتم المكوث خلف الستائر الروحية بعيدا عن عالمنا الوجودي ! أتشتاقون لنا كما نشتاق لكم ! أتعرفون لقد اتضحت لي الرؤيا سابقا؛ لكنها الآن تتجلى أكثر بالوضوح ، إنني الآن أرى في كل زاوية حياة تنبعث منها روائح زكية، تستنشقه أرواحنا المتعبة، وتحمله حكايات الشمس البعيدة ! وأرواح الفراشات الخفيفة إلى كل ركن في هذا العالم ، وكم يساورني السؤال وأنا معكم !! هل زهوركم ذابلة كما هو عندنا !! هل تصاب بالشتاء أم أن لزهوركم حياة فريدة ، لا تعرف طقس التساقط، ولا لون الخريف، أيها الأحياء في كينونة السماء، لا علم لي بحالكم منذ أمد البارحة المتقادم ، عزني كثيرا أنه لم يزرني أحد منكم في مناماتي المستمرة ، اشتياقي للحديث معكم بات مفرط ؛ لكني ربما تجاوزت حسابات الشعور، وأصبحت محتلة من قِبَل الوقت الآسر، كل الدقائق والثواني أحسبها ؛ لكي ألقاكم ، وهاهي تتناولني بشراهة إلى أخر لحظة من رمق اليوم، أحتفل بالأعمال الشاقة بمتعة لاتؤلها البهجة، ولايفسرها البؤس ، ربما هي طريقة جديدة للتهرب والعيش بسلام محمود .
أيها الشهداء ! كل الأمهات، كل النساء، كل الأطفال، الذين تركتموهم وهم في عز احتياجهم لكم، هآنذا أراهم جميعا يستقوون على صروف القدر وعلى هشاشة قلوبهم المذبوحة، بمسك المصحف المخبأ في جيوب منازلهم العطرة، هو الحل النبوي لترويض هيجان القلب من زوابع الشوق ونبضات الحنين المتسارعة.
وأعي تماما أنكم اﻵن ابتعدتم مسافات طويلة عن مكاننا عن زماننا، ولم يعد بإمكانكم رؤيتنا ومقابلتنا، ولكن لاضير فأرواحنا لبت شوقها وحجت سبع مرات، وهي تطمئن عليكم بين الفينة واﻷخرى ، وهاهي ترجع في كل ثانية مسرورة مع أسراب الطيور المهاجرة ؛ لتُطمئننا أنكم بخير بل تفوقون معنى الخير كله .
شُهداءنا : ها هي الأيام مرت بغيابكم وتركت فينا أثرًا لنفوسنا المكابرة فنحن لم نبكِ قط علنا ، بل تذاكينا على بعضنا البعض وتحصنا بالحمد ومحافل الذكريات … وهي الآن مشتاقة وتبتلع بحورا من الدمع بحضرتكم، هي الآن تحدثكم وتتمنى لو أنكم تستيقذون من قبوركم لتزوروا منازلكم العتيقة، ولو للحظة واحدة من الزمن الآخذ ، ولكن عبثا كان حلمنا فالمصير قائم على شريعة المغادرة .
أعلم جيدًا أن بوحي وحديثي لكم اﻵن ،لن يعيدكم للحياة، لذا سأكتم حنين وجعنا بخزانة جدي القديم ، ونخفيه تحت جذور شجرتنا السدرية، وستبقى أرواحنا، عاكفة في محراب الدعاء والتوكل بأنكم ستعودون لها يوما ما ، محملين بالزهور والفلاح ، السلام على أرواحكم، … وليتني أحذو حذوكم؟ وأقتص لي من تلك اﻷرض بيتًا لاأظل فيه ولاأشقى ؟.
.