نبوءة البئر
إب نيوز ١٢ يونيو
“الجزء الأول”
عفاف البعداني
قد تلجأ لتصديق مزاج النوبات الشعورية، التي تؤيد مصداقية وجود البئر، لقد سمعت مرات عدة أن هناك روح خفيفة تسكن تلك البئر، بمقدورها منحك حياة أكثر هدوء، وقد قيل عن مكانها أنها تقع في بقعة مرتفعة لايصلها إلا المفرطون في كل شيء، في الحياة ، في التصور، في الطيبة، في البؤس وآخرها المفرطون في الادراك، وكم ساءني سروري في حين أني وجدت كل تلك الصفات موجودة فيني، اتصفت بها وشبت فيني منذ زمن و دون علم مني؛ لكني الآن رأيتها يانعة تشاركني أدق تفاصيلي الحياتية، ولما كان الأمر على هذا النحو، عزمت قراري في البحث عن تلك البئر؛ كي أشرب من ماءها العجيب وأرى أي روح تعيش فيها.
حقيقة: إنني أريد أن أتخلص من الكوم الثقيل في رأسي، لقد أحدث في جمجمتي قرعا مدويا بالصداع، إنه يتعهد زيارتي كل مساء، لقد شيد في رأسي مدن عجيبة وأشياء معلقة وكأنها نزعت من قلب التأريخ وقصدت تلافيف دماغي بدقة، لايمكنني تحمل رؤيتها في كينونتي المرهقة، كلما أريده الآن خلع كل شيء من رأسي إلى تلك البئر، أريد أن أصل بأقصى جهودي الممكنة، أريد أن أسترسل مع السماء وأحكي عن كمية الوجع الذي يتناولني بشراهة، سأحكي لها عن الألم الذي يعيرني اهتمامه الزائد بين الحين والآخر، أشياء كثيرة حرصت التخفيف منها عند نبوءة تلك البئر وعند تلك البقعة المرتفعة.
هكذا كانت النوبات المحمومة تتسرب لكل عضو حي في داخلي، وتجعلني أبحث عن تلك البئر والقرب من سحب السماء، ولحسن حظي أني بتاتا لم ألجأ لأي مخلوق، ولم أنتحب أمام أحد، هذه المرة كنت قوية وأريد أن أعيش كل شيء بمفردي، سأبحث من بعيد سأحرص كل الحرص أن لا يشعر بي أحد، سأكون هادئة، وأبحث عن كل معلومة تقودني لتلك الحقائق المستترة، وبخلسة فضولية سمعت أحد الراسخين يقول : هناك حقائق لاترى إلا عن طريق الحس السابع، وتأكدت من كل ذلك ، حينما وجدت في سطور أحد الأجداد، أن البئر ترمز لكثير من وجيه الحياة الغامضة، ومن يعرفها هو ذو خندق واسع من التفرس، قلت في نفسي: إذا ربما أن حدوسي في محلها وأن هناك ثمة من يعرف لغز جديد عن ماهية الحياة، ومؤكدا أن ذلك الشخص يقضي معظم حياته في الصوامع المعتزلة، وموجود في عصري، لكني لن أتخلى عن قراري لن أستعين بأحد .
ولكن مهلا!! مالذي يدفعني لتصديق كل هذه الأساطير وهذه التحف الخرافية، هذه فقط مجرد لحظات إغماء تعتلي جسدي بمرارة، من الواضح أن نوبات الحمى ترتفع في رأسي وتنشأ كل هذه الحكايات الفريدة، أو ربما أنه نوعا من الإفراط بالتفكير أيضًا، أظن أن هذا كله سببه هلوسة، ولكن هل فعلا أن الادراك علة مرضية، ويجب عليّ التخلص منها بهذا الاصرار .
نبوءة البئر
“الجزء الثاني”
ليت الصداع يخف حتى أستطيع رؤية الأشياء من منظوري السابق، يا إلهي ما هذا!!. إن الحمى تسري بجسدي بشكل متسارع، بل أشعر برعدة قوية تهز المكان تثيرالدهشة، ولكن كيف عم الهدوء دفعة واحدة! ؟ إن كل شيء يبدأ بالدوران حولي، وكأنها تطير في الهواء، كوب القهوة، الأقلام، الأوراق، الستائر، كل شيء يتحرك عدى هذا الجسد الساكن والمحموم الذي أعيش فيه، إنه يقف مستلم لكل شيء، يراقب بصمت ويتصرف كما لو كان من فصيلة الموميا، ولكن لن أكترث لهذه الأشياء المتحركة، سأغفو، بل أعني سأذهب، وأتحرك ، سأمنح نفسي روح المجازفة، أريد أن أرتاح من الانهاك الذي يأتي بدون سبب، أريد انعاش جسدي على أي حال.
وتطامنت للخيال مجددا، مضيت بطريق لا أعرفه، ومررت بزقاق كل الروائح القديمة تنبعث منه، الدخان يتصاعد بشكل إعصار وديع، الكرة تهرب من جهة مليئة بالأطفال، هي مربعة الشكل وليست دائرية كما نعهدها في عصرنا، البيوت رمادية وكله مائلة، الأشجار مسنة وثمارها قد هرمت، يا إلهي ماهذه الأشياء، وماهذه المخلوقات أكاد أن أفقد ماتبقى لي من صبر! وعلى حين خوف!! أسمع بصيص صوت لظل مرتفع لايعرف له جسد أو هيئة ، إنه يطمئنني أن لاداعي للقلق إنهم أطفال صغار!! فعلا إنهم صغار، وربما هم من سيدلوني على تلك البئر، ولكن ربما يسخرون من جدية بحثي ويرشدونني إلى طريق مسدودة ! لا… لن أستعين بهم مهما كلفني الأمر، سأتحاشى الحديث معهم وأتجنب لمس كرتهم الغريبة، سأنتظر مجيء أي إشارة حسية تقود قدمي نحو ما أصبو إليه من تلقاء نفسها ! .
وبالفعل ! كنت أمشي دون معرفة، ولكن نسيت لبرهة أن التعاسة تحبني كثيرا، لقد فقدت حاسة الزمن، وجدت ساعتي مغمي عليها، قد توقف نبضها ، وفقدت صوتها منذ وقت ولم أعي، حتى البوصلة التي كانت بحوزتي اتضح لي أنها محمومة مثلي وقد أغمي عليها، و فقدت كل اتجاهاتها، لكن لا يهم قدامي ستوصلني حتما إلى حيث أريد ، ومرت الساعات تلو الساعات وأنا في لهاث من البحث، وظهرت المفأجاة بعد عناءطويل… إنها البئر!! إنها هي!! لقد كان حدسي محقا إذا !! أحجار ملونة تماما ،كما ذكر في الكتاب، أيضًا الجرة البنية مفتوحة من الرأس، والحبل عريض وخشن، تذكرت كيف يمكنني أن أنزل تلك الجرة وأنا مهدهدة الحال، جسدي منهك لايقدر على حمل نملة !؟ يا إلهي مالعمل، أيمكنني فعل هذا ، سأحاول، ياللغرابة !! إنها خفيفة جدًا لماذا مظهرها يوحي بالثقل، العجيب أنني حصلت على الماء ولم يكن بمقدوري أبدًا أن أشرب منه وأحط الكوم الثقيل فيه، لأني رأيت في الجرة شي يتلأ لأ، وكأنها عيون جوهرية، يدعو منظرها للقلق.
نبوءة البئر
“الجزء الآخير”
إنها كالمرآة ترسم ملامحك اللحظية ولكن مالذي أجده!! إن هناك مشاهد عينية تتراءى، من وهج الحياة، وبعضها تجارب مررت بها سابقا،
الصور !!… .الصور !!. تتعكر وتتعدل، في نفس الثانية ، ما هذا إن المشهد مريب، مالذي جآء بي لهذا المكان كم أنا شقية، دائما أقحم نفسي في أشياء أكبر مني، لم أجد إلا شقاء يضاف إلى شقائي السابق، بل أحس أن نبضات قلبي تتسارع كطفل وليد يا إلهي مالسبب، حتى يدايا ترتعشان وجسدي ينهمك في فقدان وعيه، هل يعني أن حياتي ستنتهي هنا!! في قبو الغيبوبة الوجودية، هل يعني أن لن أرى أمي مجددا، ولن أطل على الصباح، هل سيدفن جسدي وأنا مازلت على مايرام، لا… .ثمة خطأ في تفسيري المفرط، ولكن لماذا رائحة الموت تحوطني من كل جهة، لماذا الرعب يتراقص حولي، كالفراشات !!
فراشات !!! لكن مالذي يحدث إنها تخرج من الإناء بشكل مكثف، أيعقل أن الفراشات هي فعلا أرواح موتى تلتقي مع بعضها البعض على الدوام، إنها تتجه نحوي بسرعة، هل أهرب منها؟ وهل يعقل أن الطرق الطويلة التي كنت أقطعها ذهبت سدى، لن أتحرك حتى أعرف مزاج تلك الفراشات، اقتربت، واقتربت، إلى أن جردتني تماما عن الرؤية، طرحتني حيث كنت، وكانت تقول همسا: ستعرف عندما نذهب؟! استعدت نشاطي، ورأيتها تتدافع نحو النأفذة لتعود لمكانها البعيد تاركة جسدي في تلك الغرفة الهادئة.
صحوت… وعندما اختفت دبت فيني قشعريرة وجرجرت نفسي لأنظر من تلك النأفذة، لقد رأيتها على شكل ذيل طويل، تتجه نحو السماء، وكأنها لغز الأرواح العائدة، وابتسمت لكل ماحصل، شعرت أن هناك فعلا عدة أشياء سقطت مني وأنا أرفع تلك الجرة المليئة بالماء من البئر، لقد سقط مني الخوف، القلق، البؤس، التعب، لقد أعادتني لتخبرني فن التجاوز ، فليس كل مخلوقات الكون يمكننا معرفتها دفعة واحدة، ليس كل ما أفكر فيه صالح للترجمة، هناك حقائق مغيبة، هناك مخلوقات مستترة، هناك فعلا ألغاز كثيرة، لكن الإنسان رغم فطانته، رغم بداهته، يقف عاجزا تماما عن الكشف عنها، وهذا إن دل على شيء، فهو على قدرة الله وعظيم صنعه في هذا الكون.
الجميل من هذا كله أني استعدت نشاطي للحياة من جديد، ها أنا أتنفس وأشم رائحة الزهور، وأنظر نحو الجبل دون أن يقاطعني الصداع، بساطتي كينونتي ، ابتسامتي عادت ترى الحياة وتعي تماما كم هي جميلة حينما لم تنتظر عونا من أحد، كم هي راقية عندما أفلتت جميع الأيادي ولم تتطلب معونة من أحد، تمسكت هي بروح الحياة فحسب، وعدت خفيفة مبتهجة دون أن أكون مدينة لأي شخص بهذا العالم، وتبقى الفضيلة في كل ماحصل متمثلة في السر العظيم الذي أودعه الله في عالم الغيبيات ولم يأذن لنا في معرفتها.
.