رحلتي مع الثقافة والإطلاع
إب نيوز ٢٩ يونيو
فضفضة قديمة فارغة من أي فائدة وهي آخر ما سأنشره قبل اغلاق هذا الحساب لفترة طويلة أو أبدية في محاولة بائسة للشفاء من هذا العبث….
القراءة عندي لم تكن إلا مجرد شهوة، هذه هي الحقيقة، إنني لم أقرأ يوماً في حياتي لأني أردت أن أتعلم شيئاً مفيداً، كان كل ما في الأمر أني كنت أريد قضاء بعض الوقت الممتع.. و لكن الأمور تتطور، الشهوة تتحول لهوس ، والهوس يجلب معه العديد من الدواهي، كالعزلة، وألم الوعي، والحزن المزمن، والحساسية المفرطة.. يصبح الأمر كارثياً مع مضي السنوات في المطالعة و التعود على مجافاة الناس و قلة مخالطتهم و الاستعاضة عنهم بالكتب التي يسهل التعامل معها و الاستماع لما تقول ..
في كل صباح أرفع رأسي عن وسادتي كأنما أرفع خلية نحل، تزدحم فيه الأفكار، تصدر طنيناً وأزيزاً مزعجاً.. وعندما أقف في مواجهة مرآتي لا أرى سوى وجهاً شاحباً مريضاً بالنظريات التي لا تنتهي، مسكوناً بأوجاع مستعارة من آلاف الصفحات ومئات العناوين ، وعشرات المؤلفين..
لقد انتحرت مع هيمنغواي و فريجينيا عدة مرات، تذمرت من الحياة وأصابني اليأس مع شوبنهاور و أطفاله سيوران وكونديرا وبقية العدميين، هتفت بحماسة مندداً بالبرجوازيين مع ماركس والرفاق بعد خطبة البيان الشيوعي، و لقد أعجبتني تسمية الرفيق تلك التي يستعملونها فيما بينهم.. ولكني بصقت عليهم لاحقاً مع فوكوياما و وضعنا سوياً نقطة في آخر سطر للتاريخ تبشيراً بليبرالية ديمقراطية رأسمالية، خضت مغامرات ودهاليز روسو التي لا يحسن ذكرها و مسحت معه بقايا الفطرة وكتبنا عقد الحكومة مع الشعب، انتقدت الحب و مظاهر التدين الكاذبة مع تولستوي وسبيناوزا، ذقت مرارة السجن مع ديستويفسكي و مصطفى خليفة، و كنت الساعي بالرسائل بين جبران و مي زيادة، ثم تركت جبران وصرت اسرب لها رسائل العقاد بدلا منه ، تأملت الثورة والعنف مع آرندت، ثم درست الحشود مع قوستاف لوبون.. و الأفراد المحبطين في تلك الحشود مع هوفر، و طفت الكون مع كل كاتب قرأت له.. و أخيراً عدت لنفسي، اتفقد قلبي بحزن و أنظر للعالم الضيق من حولي، كم هو متسخ بنفسه، مليء بعفونة التفاهة والسذاجة ، لم تعد هموم الإنسان في هذا الوقت نبيلة كما كانت في السابق، و لم تعد مشاكله صادقة كما يجب أن تكون.. الصراخ اللامنطقي يشق أديم السماء و يغشى وجه الأرض مثل سحابة سوداء.. كل شيء تغير، أظن أنه تغير مع أن الأمر على هذا النحو القبيح منذ انتباهي الأول، أعتقد ذلك لأن الأشياء لا تبدوا كذلك في تصورات السابقين و أحاديثهم، هناك فصام يعبث برأسي بين ما كان عليه العالم في قراءتي وماهو عليه في معايشتي .. أعاني كثيراً في محاولة التماسك و الفصل بين ما فهمته من نصوص و بين ما رأيته و عجزت عن فهمه من الواقع.. بين ما أمضيت عمري في قراءته وترتيبه في رفوف وعيي وبين ما وعاه الناس بفعل الكهان والإعلام والسياسيين وأشباه المثقفين والأفلام ومسلسلات الشرق الأوسط ذات التفاصيل الوقحة السخيفة ، وكثيراً ما أجدني أخوض نقاشات بالغة الإنحطاط مع هؤلاء الذين لم يتجرعوا ألم الوعي و مرارة الفهم.. الذين يعبرون عن أفكارهم و هم يبتسمون بتكلّف كأنما يلقون نكاتاً مضحكة، كيف يستطيع إنسان شرح الحقيقة وهو مبتسم.. الحقيقة ليست طرفة، ولا شيء فيها يدعوا للانبساط، و الواجب أن تراعى هيبتها ، و تقدّم بالخشوع و الرهبة اللائقة.. و النقاش حولها لا يخرج عن هذه الدائرة الشبيهة بطقوس التنسك، بهدوء و احترام بالغين لهذا الشيء العظيم.. النقاش الذي تديره عقول الفاهمين أو الذين يحاولون الفهم يختلف عن حفلات النباح التي يقيمها من لا يستحي من جهله و نقص فهمه، من يصر على أن تحترم غباءه و جرأته في قول شيء لا يعيه كما يجب، و لم يتعب في سلوك الطريق إليه.. و إنما حصل عليه معلباً جاهزاً في تصريح أو مقال مهلهل هش.. فتناوله شاعراً بالرضا لهذه الاستنارة الرخيصة..
لاشك أنها رحلة العذاب الممتدة من عمق التاريخ المدوّن إلى لحظة كتابة هذه السطور ، تلك التي بدأت في مكتبتي القديمة المتهالكة إلى مكتبتي الجميلة الكبيرة، و ستستمر حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً.. إنني أشعر بثقل في قلبي، وتخثراً في روحي ، ومللاً لا يمكنني وصفه من تكرار الكلمات والأفكار والشعارات، حتى الشخصيات و الأرواح تبدوا و كأنها تنسخ نفسها من الروايات و القصص والتراجم.. ثم تتقمص أسماء أعرفها و أعيش بينها.. هل يمكنك تخيل هذا؟ إنني سجين في مسرحية أزلية أبدية تكرر نفسها إلى مالا نهاية، أنا الحاضر الوحيد في مدرّج الجمهور أشاهدها لأني لا أملك خياراً إلا المشاهدة..
#بقلم وسام المقيد