تنومة من زاوية إنسانية
إب نيوز ١٧ يوليو
بلقيس علي السلطان
الحج أمنية من أمنيات المؤمن الصادق الذي يتوق لزيارة بيت الله الحرام، وزيارة قبر رسوله الأعظم؛ ليحط عندهما رحال الشوق والحنين التي طالما حملها في فؤاده الذي يهوي في كل سنة يأتي فيها موسم الحج، وتنهمر دموعه شوقاً لأداء هذه الفريضة العظيمة.
في عام ١٩٢٣م _ ١٤١٤هـ اجتمع مجموعة من الحجيج اليمنيين؛ لأداء فريضة الحج وعزموا الرحيل إلى بيت الله الحرام على الرغم من مشقة السفر وخطورة الطريق وصعوبة التكاليف _ لأن السفر كان لمدة أشهر سيرا على الأقدام أو ظهر الدواب _ إلا أن الحنين لبيت الله الحرام وأداء هذه الفريضة كان يهون على الحجيج كل الصعوبات ، فتجد من بينهم رجل مسن أبيض اللحية قد أخذ كل مايدخره من سنين من أجل أداء فريضة الحج و نيل شرف لقب (الحاج) الذي هو أعظم شرفا له من لقب الملك والأمير والوزير ، وهناك امرأة أربعينية قد باعت جواهرها وأخرى باعت أرضاً ورثتها من أجل أداء هذا الركن العظيم والفريد فزيارة بيت الله وأداء مناسك الحج أغلى من كل ذلك ، وكان من بينهم طفل أبى والديه إلا أن يصطحباه معهما ليزور قبر رسوله الكريم محمد _صلوات الله عليه وعلى آله_الذي كان شيخه في المعلامة (الكتّاب) يتحدث عنه وعن شجاعته وكرمه ورحمته وحبه لليمنيين ، وكذلك
الطواف بالبيت الحرام الذي طالما تخيله وشيخه يحدثه عنه وعن كيفية أداء مناسك الحج والطواف حوله ، وأيضا كان من بينهم أُسر بأكملها إما الزوج والزوجة و الأولاد، أو الأخ وأخواته وزوجته ووالدتهم ..إلى غير ذلك.
وبعد أن حزم الجميع متاعه واستعد للرحيل إلى بيت الله ، وبعد أن أُقيم في كل بيت زيارات التوديع للحجيج(المجابرة) انطلقت قوافل الحج ملبية وقد هوت أفئدتهم شوقاً للبيت العتيق ، وفي الطريق أخذ الحجيج يتعارفون فيما بينهم ويتبادلون الحديث كلا عن منطقته وعن شوقهم لأداء فريضة الحج ، والأطفال يسألون أهلهم عن موعد الوصول فلم يعد للصبر مكان في صدورهم شوقا للقاء وأداء المناسك .
بعد مضي الليالي والأيام المشمسة منها والممطرة والعاصفة وصل الحجيج إلى الحدود، فأعتلت الفرحة وجوههم وتعالت التلبيات، وتلاشى تعب الطريق ومشقته، وحل الأمل والفرح عوضاً عن كل ذلك، وهم لا يعلمون أن خلف الجبال ذِئاباً بشرية يتربصون بهم وينتظرون الفرصة من أجل الإنقضاض عليهم لإستباحة دمائهم ونهب أموالهم ، فما إن وصل الحجيج إلى تنومة التي كانت لهم جسرا للعبور إلى أمنية الحج وكانت للوهابيين وأمراء بني سعود مصيدة وفخاً؛ للنيل منهم حتى كانت الجريمة الكبرى !
وضع الحجيج رحالهم في تنومة؛ ليأخذوا قسطاً من الراحة ويواصلوا رحلتهم التي أشرفت على نهايتها ، ولم يعلموا بأنهم وضعوا رحالهم الأخير !
ما إن وضع الحجيج رحالهم حتى تكالب عليهم جنود الأمراء من بني سعود من قطاع الطرق ومن الوهابيين الذين انتزعت من قلوبهم الرحمة والإنسانية، فكان الرصاص ينهمر من كل جانب، وكان الصياح والإستنجاد يتعالى في أرجاء ذلك الوادي، فلم يرحموا الأطفال والنساء والشيوخ ، وصوبوا بنادقهم في صدور الجميع !
تساقط الجميع وسالت الدماء في جميع أنحاء وادي تنومة
، ونزل المجرمون القتلة؛ ليتخلصوا على من تبقى منهم بالذبح وقطع الرؤوس والطعن وسلب الأموال التي كانت معهم ، فهناك أكثر من ثلاثة ألاف حاج تربص لهم خبثاء الأرض دون أي ذنب سوى أحقاد دفينة في صدور بني سعود على اليمن وأهله ، حقد قديم الأزل جذوره الأجداد الذين ناصروا رسول الله _صلوات الله عليه وآله_ حتى وصلت رسالته مشارق الأرض ومغاربها ، الأجداد الذين شاركوا رسول الله في طرد أجداد بني سعود من اليهود من حصن خيبر وبني قينقاع وغيرهم من المدينة أذلاء صاغرين ، فظلت بذرة الحقد في قلوبهم حتى أعادوا غرسها على يد “مردخاي” والد بني سعود في نجد ولتنبت شجرة بني سعود الخبيثة التي ثمارها أمراء شرابهم من دماء الأبرياء، وطعامهم جثثهم، وطربهم أنين أوجاعهم !
ظل أهالي الحجاج ينتظرون عودتهم، ولا يعلمون بأنهم قد ودعوهم الوداع الأخير، ظلت أهازيج المداره تخاطبهم وتتمنى لهم العودة ليلاً ونهاراً، ولا يعلمون بأنهم قد أصبحوا جثثاً تأكلها الغربان ووحوش البر ، وظل الأطفال ينتظرون عودة أصدقائهم الذين ذهبوا للحج؛ ليحكوا لهم أحداث الرحلة؛ وليبلغوا سلامهم إلى رسول الله _صلوات الله عليه وعلى آله_ كما وعدوهم .
وما إن وصل الخبر المفجع والأليم إلى أهالي الحجاج حتى ساد الحزن والأسى على هذا المصاب الجلل الذي لم يكن ليخطر على بال أحد ، ولم يخطر حتى ببالهم أنها لم تكن الأولى ولم تكن حتى الأخيرة، فاليوم وبعد مضي مائة عام على هذه المجزرة المروعة عاد نفس الحقد المدفون لينفجر ويرمي حممه على اليمن بأكمله ويرتكب في حق شعبه أبشع المجازر ويستبيح دماء الأطفال والنساء والشيوخ من جديد ، ومن سكت وتفرج على دماء حجاج اليمن في تنومة مازال يسكت ويتفرج على دماء اليمنيين أجمع ، فأين المصلين على نصب اليهود التذكارية من شيوخ البلاط الخليجي الذين أخذتهم الرحمة والرأفة على اليهود ولم تهز ضمائرهم مثل هذه المجازر ، لماذا لا يذهبون للصلاة في وادي تنومة وينددون بهذه الجريمة ؟
لقد كانت مجزرة تنومة مقدمة لأحداث كثيرة بدايتها الإعتداء على الحجيج وعدم إحترام فرائض الله وضيوفه ونهايتها الصد عن بيت الله وإقفال الطرق في وجه حجاج بيت الله من كل فج عميق ، وما كان لهم أن يتمادوا في أفعالهم لولا سكوت معظم المسلمين وخوفهم من الأمراء والرؤساء الظالمين ، لكن مهما تمادوا وزادوا في طغيانهم فمكرهم إلى بوار وسيأتي الله برجال يحبهم ويحبونه يرفعون راية الحق؛ ليدحضوا راية الباطل، يقاتلون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ،حتى يسود العدل ويندحر الظلم والجور وسيعلم الذين ظلموا أي منقلبٍ ينقلبون ، والعاقبةُ للمتقين .
.