معنى الشهادة في سبيل الله
د. حمود الأهنومي
نطْلِقُ جميعُنا كلمة (شهيد) على القتيل في سبيل الله، غير أن الكثيرين يمرون عليها مرور الكرام، ولا يحاول أن يتعرَّف عليها، ولا على دلالاتها الحية في الواقع العملي، فما هي الشهادة؟ ومن هو الشهيد؟ ولماذا أُطْلِقَ عليه هذا الوصف؟ وهل معناه الحاضر للمشهد أو المؤدي للشهادة؟ وهل ذلك في الدنيا أم في الآخرة؟ وهل تُفتَح للشهيد قنواتُ التعرف والحضور من مقامه الكريم إلى واقعه الذي استُشْهِدَ فيه؟ هذا وغيرُه ما ستحاول هذه المقالة الإجابةَ عليه.
(شهد) في اللغة العربية والقرآن الكريم:
وردت مفردة (شهد) في اللغة العربية وفي القرآن الكريم على معنيين:
المعنى الأول: الحضور، ومنه قوله تعالى: (فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) (البقرة: 185)، وقوله تعالى: (وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ) (النور: 2)، وقوله تعالى: (إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً) (الإسراء: 78)، وقوله تعالى: (وَبَنِينَ شُهُوداً) (المدثر: 13).
والمعنى الثاني: خبرٌ بشهادةٍ منبِئة عن حضورٍ أو علمٍ ببصرٍ أو ببصيرة، قال تعالى: (شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (آل عمران: 18)، وقوله تعالى: (وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) (التوبة: 107)، وقوله تعالى: (قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ) (يوسف:26).
ويتبين أن بين المعنيين ارتباطا هاما، وبعبارة أدق يتبين أن المعنى الثاني يتركب من المعنى الأول وزيادة، أي من الحضور، وهو تحمل الشهادة، ومن القول بها، وهو أداؤها، وهذا يرجّح أن الشهادة في جذرها الأصلي تعني الحضور، باعتباره أساسا هاما في الشهادة بمعنى الإدلاء أو الإخبار بما علمه الشاهد، فالكثير فرع عن القليل.
فإذا انتقلنا إلى العرف الشرعي لكلمة (شهادة)، وجدنا أنها تطلق على ما يدلي به الشاهد من معلوماتٍ قاطعة رآها أو سمعها، أو تحملها عن حضورٍ قطعي للمشهود فيه، كما وجدنا أيضا أنها باتت تطلق عرفا إسلاميا عاما على القتيل في سبيل الله؛ حيث أطلقت منذ أول الإسلام وإلى يومنا هذا على (القتيل في سبيل الله)، وأطلق وصف (شهيد) الذي يُجْمَعُ على (شهداء) على (القتيل في سبيل الله)، وصار هذا مفهوما مجمَعا عليه بين المسلمين جميعا، منذ صدر الإسلام وإلى يومنا هذا.
وهذا لا يعني أن هذا المصطلح (الشهادة ومشتقاتها) لم يرد في القرآن الكريم على القتل في سبيل الله بأي حال من الأحوال، ولكن نريد البحث عنه بعيدا عن التسليم بهذه المسألة ليتم إثبات أن إطلاق وصف الشهيد على القتيل في سبيل الله بأدلة وحيثيات أخرى، تبيِّن وتبرهن أن من ورد في قوله تعالى: (ويتخذ منكم شهداء) قُصِد بهم شهداء القتال في سبيل الله.
الشهادة في اللغات والثقافات والأديان الأخرى
من العجيب أن الكثيرين منا يجهلون معنى كلمة (شهيد) ومصدرها اللغوي، وامتداداتها المختلفة، بينما هي أمر معروف لدى كثير من اللغات والثقافات والأديان الأخرى، فالشهيد في اليهودية والنصرانية هو ذلك الشخص الذي يعذَّب أو يقتل في سبيل دينه، أو من أجل تعليم من تعاليمه.
وإذا أخذنا في هذا الصدد من اللغات الإنجليزية على سبيل المثال ، نجد أن الشهادة هي (Martyrdom)، وأن الشهيد هو (Martyr) الذي يفسَّر في معاجم اللغة الإنجليزية بأنه الشخص الذي يضحي بنفسه، فيُقْتَل أو يعذَّب من أجل معتقداته الدينية، أو الإنسانية، أو القومية.
وتزعُم بعضُ تلك المعاجم أن أصل هذه الكلمة مأخوذ من اللاتينية، والتي تعني الشاهد (the witness)، والشاهد هو الحاضر، الذي يتحمَّل مضمون الشهادة التي سيدلي بها لاحقا.
وعلى الرغم من التشابهِ الكبير بين العربية والإنجليزية إلا أن بعض الباحثين يجادل بأن للشهيد في اللغة العربية وفي الدين الإسلامي خصوصية معينة، لا توجد في تلك اللغة، ولهذا يوجب هذا البعضُ على المترجمين من العربية إلى غيرها من اللغات أن ينقلوا كلمة (شهيد) إلى اللغة المترجم إليها كما هي، بدون استعمال لفظة (Martyr) التي تقاربها.
العلاقة بين المعنى الشرعي واللغوي لكلمة شهادة
يترجح لديَّ أن الإطلاق الشرعي لكلمة شهيد على القتيل في سبيل الله جاء منسجما مع الوضع والإطلاق اللغوي؛ فالقتيل في سبيل الله هو ذلك الذي حضر الموقف الحق، وشهد به وفيه شهادةً عمليةً، وهي الشهادة بماله ودمه وروحه، وهي أقوى من الشهادة القولية، وبالتالي فإنه يصدُق عليه أنه شاهد، ويصدُق على موقفه أنه شهادة، وأنه لقوة ذلك الموقف، ولتكرُّره، ولفضله، ولخصوصيته، اختص باشتقاق (شهيد) على وزن (فعيل) الذي هو أحد صيغ المبالغة ومن أسماء الفاعل في اللغة العربية.
وإذا كان الله قد نهى عن الإضرار بالشهيد بسبب شهادته واعتبره فسوقا، حيث قال: (وَأَشْهِدُوْاْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ) (البقرة: 282)، فإن هذا الشهيد قدّم شهادته العملية على موقف الحق بأعلى درجات الحضور، وفي أعلى درجات الاستعداد لتبعات ذلك الحضور، وتبعات تلك الشهادة، لقد قدم روحه التي هي آخر ما يمكن أن يطاله إضرار الغير.
ولعل الله الكريم جازى الشهيد بأضعافِ ما قدَّم، فإذا كان الشهيد قدَّم روحَه بأن تنازل عن حضوره الزائف في الدنيا من أجل الله وفي سبيله، فإن الله أكسبه الحضور القوي والخالد والثابت في الآخرة، وهيأ له مقام الشهادة العظيم.
ارتبطت الشهادة إذن بعملية الموت قتلا، ولهذا لا تُطْلَق الشهادة على مَنْ حضر الموقفَ الحق إلا إذا قتِل فيه، فلا تُطلَقُ على المجاهد الذي حضر المعركة وقاتل فيها ولو أبلى بلاء حسنا؛ ذلك لأنه لم يلج باب الخلود والحضور الحقيقي؛ لأن حضوره المجازي في الدنيا، وهو البقاء في الدنيا، منَع عليه الحضورَ الحقيقي والكامل في الآخرة؛ لأن الشهادة هي الحضور القوي والفاعل في عالم الحقيقة وهو العالم الأخروي، ولا تكون إلا لمن اختاره الله شهيدا، وطاله القتل في سبيل الله ومن أجل إعلاء كلمة الله.
مظاهر حضور (شهادة) الشهيد في الدنيا والآخرة
إن أكثر ما يقلق الإنسان هو فقدانُ حبيبه، وغيابُه عنه، وهذا أمرٌ مؤسِف بالفعل في حالات الموت العادية، وفي حالات الموت بالقتل الذي ليس في سبيل الله، ولكنه بالنسبة للقتيل في سبيل الله أمر مختلف تماما؛ فقد بيَّن القرآن أن الشهيد لم يغِب، وأنه حي يُرزَق، وحاضر، شاهد، مطَّلع، يستبشر، ويفرح.
لقد شدد القرآن الكريم على أن الشهيد حي، فنهى عن القول بأن الشهداء أموات، وأكد أنهم أحياء وإنْ بدون شعورٍ حِسِّيٍّ منا بحياتهم، قال تعالى: (وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ) (البقرة:154)، وفي الآيات الأخرى نهى الله تعالى عن حسبانهم أمواتا، وأكد أنهم أحياء، بل عدَّد بعض مظاهر الحياة التي يحيونها في مستقرهم الذي اختصهم الله به؛ قال تعالى: (وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ . فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ . يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ) (آل عمران: 169- 171).
إذن الآيات تبين:
– إن الشهيد لم يمت، بل هو حاضر وشاهد، وهذا هو معنىً من معاني الشهادة؛ وعليه فإن على أحباء الشهيد وأقاربه أن لا يحزنوا بسبب فقدانه؛ لأنه في حقيقة الأمر حاضرٌ شاهدٌ لهم، مطلع على أخبارهم، ومراقب لكل أعمالهم، التي تتصل بقضيته العادلة التي قتِل من أجلها، هذا من ناحية.
– من ناحية أخرى بينت الآيات أنهم (أي الشهداء) عند ربهم، وهو أعلى وأجمل وأقوى وأفضل حضور، يمكن للمرء أن يتمناه، أو يرجوَه، وهو أيضا مظهرٌ آخَرُ يؤكد شهادةَ وحضورَ وعلمَ هذا الذي قتِل في سبيل الله، فإذا كان قد قُتِل حين شهد الموقف الحق، فقد أكرمه الحق تبارك وتعالى بأن جعله حاضرا في حضرة الحق، وعلى مقربةٍ من علمه، وآياته، واطلاعه.
– وبسبب قربهم من الله فمن المؤكد أنه ستنالهم بركة ذلك القرب، ومن مصاديق القرب أن ينال القريب من فواضل مُقرِّبِه، فالله هو الحي الذي لا يموت، لكنه ميز الشهيد بأن لا يموت كما يموت الآخرون، والله على كل شيء شهيد، (إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً) (النساء:33) وهو الذي يمنح هؤلاء المقرَّبين منه شيئا من تلك الشهادة على الأشياء، ولعلها الشهادة لمن وراءهم من رفقاء جهادهم، والماضين على دربهم، حيث يمكنهم الاطلاع على مستجداتها، يدل على ذلك ما ذكرته الآية المباركة أنهم (يَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ).
-وأنهم (يُرْزَقون) يضيف الله ذكر نوع من مظاهر الحياة التي يحياها الشهداء، حيث يبين أن حضورهم حضور مبارك متجدِّد بتجدد أنواع الرزق وأوقاته وظروفه، تجري عليهم الأرزاق، ومن المعروف أن الأرزاق لا تجري إلا على من كان حيا، حاضرا، وشاهدا.
-وأنهم (فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ)، وهنا جاءت (فرحين) حالا من واو الجماعة في (يرزقون)، والحال مبين لحال وهيئة صاحبها، أي أنهم تجري عليهم الأرزاق حال كونهم فرحين، وأن يرزق المرء وهو في حالة الفرح دائما فتلك هي قمة الحياة المطمئنة، وأوفاها، وأعظمها، وأجملها، وأصدقها.
-وأنهم (يَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ)، حيث أثبت الله لهم خاصية الاطلاع والنظر إلى ما وراءهم في الدنيا، فهم يعرفون ما الذي يحدث وراءهم، ويستبشرون، والاستبشار هو حصول البشارة لهم، أي أنهم فرِحون بانتصارهم الانتصار الشخصي، وهو الشهادة في سبيل الله، وهم أيضا مسرورون بحسن طريقة المجاهدين من خلفهم، وبأنهم لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
– ومعروف – نحويا – أن جملة (وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ) بدل من (الذين) الاسم الموصول في قوله تعالى (بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ)، فكأنه قال: ويستبشرون بأن لا خوف على أولئك المجاهدين الذين خلَّفوهم وراءَهم على نفس الخط وذات المسار، ولا هم يحزنون، لا في الدنيا ولا في الآخرة.
وهذا يبين أنهم في أقوى حياة، وأقربها، حيث يطَّلِعون على ما بَعُد على كثير من أبناء الدنيا، فها نحن في الدنيا ممن نغيب عن المعركة وعن المجاهدين لا نعلم بكثيرٍ من المعارك، ولا بتفاصيلها، ولا بمآلاتها، لكن هؤلاء الشهداء الأحياء يطلعون على مجريات الأمور وتطوراتها، وربما فُتَحت لهم يدُ العنايةِ الإلهية قنواتٍ مباشرةً يشاهدون من خلالها كلَّ تفاصيلِ ما خلَّفوه وراءهم، وهل ذلك إلا الحضور القوي والشهادة الفاعلة؟!
-كما بيَّنتِ السنةُ النبوية الصحيحة أن الشهيد أيضا حاضر، وقريب من الحق تبارك وتعالى، حيث قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث الذي رواه الإمام زيدُ بنُ علي عن آبائه عليهم السلام في فضل الشهيد ودرجاته: (أنه ليس أحدٌ أقرب منزلا من عرش الرحمن من الشهداء)، وهذا أيضا يعزِّز ويؤكِّد حضورَ هؤلاءِ الكرامِ الحضورَ المعنويَّ عند الله الحق تبارك وتعالى، الحضور الذي سينعكس على نشاطهم، وأدائهم، فهم قريبون منه، مطَّلعون على تفاصيلِ ما خلَّفوه من جهادٍ ومجاهدين وأعداء، مراقبون لكل شيء.
لماذا لا يُغْسَل الشهيد ولا يكفَّن إلا بثيابه التي استشهد فيها؟!
يأتي الفقه الإسلامي ليؤكِّد أن هذا القتيل في سبيل الله شهيد أي حاضر متحمل للشهادة، وأنه سيدلي بشهادته أمام الحق في يوم الحق؛ فالفقه الإسلامي يأمرنا أن لا نغسل الشهيد (وهو القتيل في المعركة)؛ لأنه لا يُغسل إلا ما كان نجِسا، لترتفع عنه النجاسة، أو حكمها، فالميت هو مَنْ يغسَل؛ لأن الميتة معدودة في النجاسات، وإلى النجاسة يتوجه وجوب التطهير والغسل، لكن الشهيد لم يمُت، بل هو حاضر، وحي، وطاهر، ومن كان حاضرا وطاهرا فلا يُغْسَل.
إن المنعَ من غسلِ الشهيد إمعانٌ في تأكيدِ حضورِ وحياة ذلك الشهيد الذي يحسبه الكثيرون أنه غادَرَ الحياةَ، أو أنه حلَّت به نجاسةُ الموت، والحقيقة أنه لا يزال حيا، والحيُّ لا ضرورةَ لغسله، وأنه اكتسب بالشهادة الطهارةَ التي ليس وراءها طهارة، ولا يجب غسلُ الطاهر، بل هذا الطاهر يحرُم غسلُه، إمعانا في تأكيد طهارته وحياته.
وأما أن يكفَّن في ثيابه التي قتِل فيها، وتُتْرَكَ آثارُ دمائه عليه، ليُبْعَث يوم القيامة كما هو حاله حين مغادرته لتلك الحياة، فإن هذا أيضا تأكيدٌ على أنه بالفعل حي حاضر، وأن الله أراد أن يبقى الشهيد على تلك الحالة من آثار الدماء والجروح، ليظهر يوم القيامة فيؤدي شهادته قوليا، كما تحمَّلها عمليا، وإذا كان سيدلي بشهادة المقال، فإن دماءه وجروحه التي تشخب دما وتتضوّع مسكا ستُدلي بشهادة الحال.
إنها شهادة الحال حين تضافر شهادة المقال، لتؤدي مفعولها في الوجدان، وتتأكد الأحقية والمسؤولية، وتتبين عدالة القضية، التي انطلق فيها الشهيد ولقي الله بها.
لا يبعد أن الشهيد سيظل على تلك الحال حاضرا عند ربه، حيا خالدا، مرزوقا، مستبشِرا، مراقبا لما يجري وراءه من تطورات وأحداث، يبشِّر أهل موقفه بالأمن والسرور، ثم سيقدِّم شهادتَه أمام المولى تبارك وتعالى محدِّثا بكل التفاصيل.
شهادته في الآخرة
إذا كانت الشهادة في الدنيا مجردَ تحمُّل للمضمون، وهي مجرد حضورٍ فاعل ولاقط للحقيقة التي لم يُفصَل فيها بعد، فإن الشهادة في الآخرة ستكون من خصوصيات الأنبياء ومن يدانيهم في المقام والفضل، وليس أولئك إلا الشهداء، والشهادة التي يمكن اقتباس تعريفها من تعريف الراغب الأصفهاني بأنها “قول صادر عن علمٍ حصل بمشاهدة بصيرة أو بصر”، وذلك ما تناولته الآية الكريمة التي تقول: (وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاء وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) (الزمر:69)، حيث تبيَّن أن هناك صنفين من البشر سيؤتَى بهم يوم القيامة للفصل فيما شجر بين الناس، إنهم الأنبياء والشهداء فقط، ولا يجمع بين هذين الصنفين سوى أداء الشهادة، والقول بها، بحسب ما تحمَّلوه من حقيقة في الدنيا، يقول الله تعالى: (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَـؤُلاء شَهِيداً) (النساء:41)، ويقول في الآية الأخرى: (وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَى هَـؤُلاء) (النحل:89).
المعراج إلى مقام الأنبياء
إن الشهادة معراج الناس العاديين إلى سماوات الفضل، وهي منهاج البسطاء من الناس الذين يصل بهم إلى جوار الله الكريم رب السماوات والأرض، وإن فضل الله ونعمته اللذين يستبشِرُ بهما الشهداءُ هو أن الله هيَّأ للناس العاديين هذا الطريقَ الذي يصِلُ بهم إلى مقاماتٍ عالية تُشْبِه مقاماتِ الأنبياءِ والصديقين، والجهادُ هو أسرع الطرقِ الموصلةِ إلى تلك المقامات العظيمة عند الله، يقول الله تعالى: (وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) (الحج:78).
هذه الآيةُ تبيِّن أن هناك شهداءَ على الناس، جاء اللهُ بهم في سياقِ الجهاد في الله، ويمكن إطلاقُهم على أعلامِ الهدى من أهل بيتِ رسولِ الله صلى الله عليه وآله وسلم بما تحمَّلوا من جهادٍ، وعناءٍ، وصبرٍ، ويقين، وإرشاد، كما يُمْكِن إطلاقُهم على أولئك الذين وهبوا أرواحهم في سبيل الله، وشهدوا على عدالة قضيتهم، وأحقيتها بدمائهم، وجروحهم.
وبهذا يتبين أن (شهداء) في قوله تعالى: (إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) (آل عمران:140)، هم شهداء المسؤولية، وشهداء الموقف الحق، والحضور الفاعل، الذين قتِلوا في سبيل الله، بدلالة اتخاذ الله لهم، واختياره إياهم، وكونِها جاءت في سياق ذكرِ الآلام والعناء الذي طال المسلمين في غزوة أحد، وفتحِ آفاق الآمال لديهم، بعد تلك الوقعة الأليمة.
قال فقيه القرآن السيد العلامة بدر الدين الحوثي رضوان الله عليه “وقوله تعالى: (ويتخذ منكم شهداء) بما ينالون من فضل الجهاد في سبيل الله، وسبقهم في ذلك لغيرهم حتى يستحقوا أن يجعلهم الله شهداء على الناس، ولعل هذا هو المراد في قوله تعالى: (وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ… وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ) … إلى أن قال: “ولعل الذين قتلوا في سبيل الله سيكونون يوم القيامة شهداء على أعداء الله بما شاهدوا، ولأنصار دين الله بما شهدوه منهم، ولعلهم سُمُّوا شهداءَ لذلك، فتفسيرُ القرآن بالمعنى الأصلي المعبَّر عنه في القرآن أظهر، كقوله تعالى: (فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد، وجئنا بك على هؤلاء شهيدا) ..”.
وفي قوله تعالى (وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقاً) (النساء:69)، ذكر رضوان الله عليه أنه: “يُحْتمَل أنهم الشهداء على الناس، وقد مرَّ ذكرهم عند قوله تعالى: (فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد ..)، وهذا أظهر، ويحتمل: أنهم الذين قتلوا في سبيل الله، ولا يبعد أن سُمُّوا شهداء لأنهم يشهدون على الناس، فيكون المعنى واحدا”.