كيف حاول الاحتلال البريطاني سلخ الجنوب عن هويته اليمنية؟ وكيف تعيد صنائعها في المنطقة المحاولة؟
إب نيوز ١٩ ربيع الأول
عبدالملك العجري
تاريخياً اليمن شعب وإقليم واحد وفي فترات متقطعة كانت تحكمها دولة أو سلطة مركزية واحدة، كما حدث في جزء من عهد مملكة سبأ التي فرضت شكلا من الوحدة الاتحادية بين الإمارات والقبائل اليمنية، وكذلك المملكة الحميرية التي وحدت اليمن- في فترة من فترات حكمها -تحت سلطتها المركزية، وبالمثل الدولة القاسمية نهاية العصور الوسطى، وفي معظم الفترات كانت تتقاسمها وتتنازعها عدة دويلات وإمارات قبلية متزامنة ومتعاقبة في الشمال والجنوب، وكانت خارطة الحدود السياسية لهذه الدويلات متحركة باستمرار ولا تقف عند خطوط ثابتة تقسم اليمن إلى شمال وجنوب، كما هو الحال في النصف الثاني من القرن العشرين عقيب ثورة أكتوبر، بل كانت تقسمه بخطوط متحركة شمالا وجنوبا وشرقا وغربا.
وفي التقسيم الإداري للسلطنة العثمانية، آخر سلطة مركزية للعالم الإسلامي، كانت اليمن ولاية واحدة، وفي حين كان الأتراك يسيطرون على شمال اليمن كانت بريطانيا الاستعمارية تحتل عدن وتفرض حمايتها على سلطنات ومشيخات المحميات الشرقية والغربية بالاتفاق مع سلاطينها ضد السلطة العثمانية في شمال اليمن..
لمواجهة مطالب الدولة المتوكلية بوحدة الأراضي اليمنية، عمدت بريطانيا لوسائل ضغط عسكرية وسياسية واقتصادية، فاستعانت بتفوقها الجوي لوقف تقدم جيش الدولة المتوكلية، واضطرار الإمام إلى التراجع أمام قصف الطائرات، ومن جهة أخرى تسييس التنوع المذهبي ومحاولة تحويل الهوية الاجتماعية المذهبية لهوية سياسية، فبريطانيا هي أول من اخترع حكاية شوافع وزيود، وشجعت وجاهات اجتماعية في الحجرية والبيضاء وتهامة وغيرها للانفصال عن الدولة المتوكلية الزيدية (بموجب اتفاق دعان اعترفت الدولة العثمانية بالإمام يحيى إماما روحيا للزيدية في شمال الشمال لكن بعد انسحاب الأتراك وقيام المملكة المتوكلية أعلن الإمام يحيى نفسه ملكا لليمن أي انه كان يحكم اليمن بصفته ملكا للمملكة اليمنية وليس بصفته إماما زيدياً) وإقامة كيانات شافعية على غرار المحميات الشرقية والغربية وتمكنت الدولة من إحباطها والحفاظ على وحدة الشمال السياسية، ومع تصاعد الروح القومية في المنطقة العربية ودعوات الوحدة القومية والوطنية سيما بعد ثورة يوليو عملت سلطات الاحتلال على إثارة مخاوف السلاطين من خطورة مطالب الوحدة اليمنية على حقوقهم وامتيازاتهم، واخترعت لهم ما سمي حينه باتحاد الجنوب العربي في محاولة لسلخ الجنوب من هويته اليمنية.. نددت الحكومة المتوكلية بهذه الخطوة واعتبرتها خرقا لهدنة ١٩٣٤م ،ولتقوية موقفها ضد السلطات الاستعمارية تحالفت مع الجمهورية المتحدة وحصلت على تأييد الجامعة العربية والدولة العربية، ودول المعسكر الشرقي.
وقوبلت جهود بريطانيا لبث الروح في هذا المولود الاستعماري المشبوه اتحاد الجنوب العربي برفض عربي ويمني واسع في الشمال والجنوب.
وفي الستينات من القرن المنصرم صدر الإعلان العالمي لتصفية الاستعمار وحق الشعوب في تقرير مصيرها، والقرارات الأممية التي طالبت بريطانيا بتصفية ارثها الاستعماري للجنوب واحترام حق الشعب في تقرير مصيره بنفسه, وجاءت ثورة ٢٦ سبتمبر لتسقط من أيديهم ذريعة الورقة المذهبية التي كان يتذرع بها عملاء الاستعمار, كل هذه العوامل -إضافة للوجود المصري في شمال اليمن واستعداد مصر لدعمهما- هيأت لقيام ثورة ١٤ أكتوبر التي أنهت مشروع اتحاد الجنوب العربي ومعه أحلام الاحتلال وعملائه من السلاطين بسلخ الجنوب عن هويته اليمنية وتشكيل نظام تابع في عدن.
إقليميا فنتيجة للإرهاق المصري من الوجود في الشمال والتحرشات الإسرائيلية ومحاولة مصر توحيد الموقف العربي خلف مصر ضد أي مواجهة محتملة مع إسرائيل كان لها انعكاسات سلبية على اليمن وعلى علاقة مصر والنظام في الشمال بالجبهة القومية، وفي مفارقة تاريخية أعلن الرئيس اليمني عبدالله السلال في مؤتمر القمة العربية ١٩٦٣م، عن حق الجنوب في تقرير مصيره وهي المرة الأولى التي يتخلى فيها حاكم يمني عن المطالبة بوحدة الأراضي اليمنية.
أما يمنياً فعلى رأس هذه العوامل الافتراق الأيديولوجي لنظام الثورتين، فسيطرة الإخوان على ثورة سبتمبر واليسار على ثورة أكتوبر أدخل مسارهما في مفترق طرق، ولتوضيح الصورة أكثر فإن الإخوان كانت أعينهم على اليمن منذ الأربعينات، وزعيم الإخوان حسن البنا أشار إلى أن اليمن بلد بكر أيديولوجيا وبعيد نسبيا عن المناخ القومي والعروبي المسيطر على المنطقة خصوصا مصر والشام والعراق ويمثل ساحة مناسبة لنشاط الإخوان ومن أجل ذلك بعث الورتلاني، وأرادوا أن يكون اليمن ساحة لتقديم نموذجهم في الحكم وفقا لنظام الحاكمية وبعد ثورة سبتمبر نجح تحالف الإخوان مع القوى التقليدية وبدعم من السعودية في تشكيل هوية نظام ثورة سبتمبر خصوصا عقيب انقلاب ١٩٦٧م.
في المقابل رأت حركة القوميين العرب أن الجنوب بعد سيطرة الجبهة القومية على السلطة قد يكون الساحة المناسبة لبناء نموذجهم ونموذج اليسار الثوري في الحكم ولتكون منطلقا لتعميم ونشر النموذج القومي التقدمي في المنطقة بمساعدة حركة القوميين العرب.
وفي كل الأحوال فشل كلاهما في بناء نموذجيهما كما خيل لهما لأسباب لسنا بصددها غير أن ميراثهما في بناء الدولة وبناء مجتمع حديث كان مختلفا وإن نسبيا، وسنحاول لاحقا المقارنة بين التجربتين في سياق مقاربة أزمة الدولة اليمنية الحديثة