كاتب سوري : اليمنُ وجنوبُ إفريقيا… انحيازُ القيم والأخلاق إلى غزّة

إب نيوز ٣ رجب

بعدَ مئةِ يومٍ من حرب الإبادة التي يشنُّها الكيانُ الصهيونيّ على الشعب الفلسطينيّ في غزّة، غدا من المُؤكَّد أنّ مُعظمَ الدول العربية والإسلامية لن تَجْرُؤَ على تقديم أيِّ دعمٍ ماديّ أو عسكريّ أو سياسيّ حقيقيّ وفاعل إلى الشعب الفلسطينيّ وقُواهُ المُقاوِمة، وأنّ الدعمَ الوحيدَ والحقيقيَّ المُقدَّمَ إلى المُقاوَمة الفلسطينية هو ما تقومُ به قُوى المُقاومَةِ في سورية ولبنان والعراق واليمن، الذي استطاعَتْ بهِ أن تُصيبَ العدوَّ الصهيونيّ وداعميه إصاباتٍ بالغةً بعمليّاتِها العسكريّة، خصوصاً في البحر الأحمر، وهذا ما أوجعَ الكيانَ الصهيونيَّ وحُلَفاءَهُ، ولا سيّما الولايات المتحدة الأميركية التي نفّذَتْ اعتداءاتٍ جوّيّةً على عدد من المحافظات اليمنية، وأعلنَ البيتُ الأبيض، في بيانٍ، أنّ (8) دُوَلٍ شارَكتْ في العُدْوان، إلى جانب الولايات المُتّحدة وبريطانيا، هي “أستراليا، والبحرين، وكندا، والدنمارك، وألمانيا، وهولندا، ونيوزيلندا، وكوريا الجنوبية”، وهي الدُّولُ التي انضمّتْ حديثاً إلى ما سُمِّيَ  “تَحالُفَ الازدهار”، الذي أطلقَتْهُ الولاياتُ المُتّحدةُ في البحر الأحمر لحماية مِلاحَةِ السُّفُنِ “الإسرائيلية”، بعد شنِّ القُوّات المُسلَّحة اليمنية هجماتٍ على السفن المُتَّجهة إلى موانئ الاحتلال، إضافةً إلى السُّفن “الإسرائيلية”، دَعْماً لقطاع غزّة المُحاصَر، وإسناداً لمُقاوَمَتِه، بعدَ أن أعلنَ الإعلامُ الصهيونيُّ أنّ تهديدَ اليمن يفرضُ على السُّفن “الإسرائيلية” الدَّوَرانَ حولَ قارّة إفريقية، إضافةً إلى التأخُّر ثلاثةَ أسابيعَ ورَفْع بدلات التأمين، بل إنّ الاستهدافَ اليمنيَّ جعلَ الكيانَ الصهيونيَّ يعيشُ حصاراً بحرياً هو الأوّلُ في تاريخه، بحسب اعتراف “تساحي هنغبي” رئيسِ مجلسِ “الأمن القوميِّ الإسرائيليّ” في تعليقِهِ على التهديدات التي أطلقَها اليمنُ دعماً لغزّة، وهو ما يتقاطعُ مع تصريحات الرئيس السابق لشُعبةِ الاستخبارات العسكريّة في كيان الاحتلال “أمان”، “تامير هايمن”، لـمّـا قال: “إنّ تهديدَ اليمنِ مُشكلةٌ للأمن القوميّ الإسرائيليّ، وهو تهديدٌ خَطِرٌ جدّاً على المُستوى الاستراتيجيّ لحُريّةِ المِلاحةِ الإسرائيليّة”.
ولم يَكُنْ غريباً حجمُ الدعم الأميركيّ غير المحدود للكيان الصهيونيّ في حربه على الشعب الفلسطينيّ في غزّة، فالتاريخُ الأميركيُّ قائمٌ على الإجرام وقتلِ الأبرياء وسرقةِ الثروات والأراضي، وعلى حُروبِ الإبادة بحقِّ السُّكّان الأصليّين، لهذا فلا غرابةَ أن يزورَ “مايك بنس” النائبُ السابقُ للرئيس الأميركيّ الجُنودَ الصهاينةَ على الحدود الشماليّة، ويُقدِّمَ إليهم الدعمَ المعنويَّ بعدَ تناوُلِ طعام الغداء معَهم وتوقيعه على إحدى قذائف المدفعيّة التي تقصفُ المَدَنيّين، “من أجل إسرائيل” على حدِّ زَعْمه، وهو الموقفُ الذي ما فتئت الإدارةُ الأميركيّةُ تتباهى بهِ، وهي التي تدّعي حمايتَها للقيم ودفاعَها عن حقوق الإنسان التي انْتَهَكَها دُعاةُ حمايتها والدِّفاع عنها في الولايات المُتّحدة الأميركيّة وغيرها من الدُّوَلِ التي تدّعي الدفاعَ عن حقوق الشعوب في سعيها لتحرير أرضِها وتقرير مصيرها.
إنّ السُّلوكَ الأميركيَّ لا يختلفُ إطلاقاً عن السلوك الصهيونيّ والرغبة المُتمثّلة بحرقِ غزّةَ وإبادتِها، وهو ما أكّدَهُ عضوُ الكنيست الصهيونيّ “نسيم فاتوري” بدعوته إلى “إحراق غزّة، عوضاً عن إلحاق الأذى بالجنود الصهاينة” الراغبينَ في إبادة الشعبِ الفلسطينيّ في غزّةَ وتدميرها وتهجير من بقيَ من أهلها، في ظلِّ صمتٍ عربيّ رسميّ وتواطُؤٍ عالميّ، كادَ يشملُ دُولَ العالم جميعاً لولا طردُ سُفراءِ الكيان الصهيونيّ من بعض دُوَلِ  العالم، وبعض المواقف الشعبية الداعمة للشعب الفلسطينيّ والرافضة للمُمارَسات الصهيونية بحقِّه، ولولا موقفُ دولةِ جنوب إفريقية، الّذي كانَ الأكثرَ انحيازاً إلى عدالة القضية الفلسطينيّة ورفضاً لحرب الإبادة ومُحاولات اقتلاع الشعب الفلسطينيّ من أرضه، وهو الموقفُ الذي لم يَحْظَ بالدَّعْمِ المطلوب من الدُّوَلِ العربية والإسلامية، بل حَظِيَ بتآمُرِ بَعْضِهمْ على دولة جنوب إفريقية عشيّةَ البدءِ بإجراءاتِ مُعاقبةِ كيانِ الاحتلال وقادَتِه في محكمة العدل الدوليّة، بمَنْعِ مُمثِّليها في الأُمَمِ المُتّحدة من رئاسة مجلسِ حقوق الإنسان التابع للأمم المُتّحدة.
وفي حيثيّات الدَّعْوى، طلبتْ جنوبُ إفريقية من المحكمة إثباتَ مسؤوليّةِ “إسرائيل” عن ارتكاب جريمة الإبادة الجماعيّة ضدَّ الفلسطينيّين؛ وتحميلها النتائج المُترتِّبة كافّةً على ما ارتكبَتْهُ من انتهاكات لالتزاماتها بمُوجب اتفاقيّة “مَنْع جريمةِ إبادة الجنس والمُعاقبة عليها”، لعام 1948، وهي الاتفاقيّةُ التي اتّخذَتْها دولةُ جنوب إفريقية إطاراً قانونياً للادّعاء على “إسرائيل” في محكمة العدل الدولية، انطلاقاً من أنّها و”إسرائيل” عُضْوانِ في تلك الاتفاقيّة ومُوقِّعَتانِ عليها، ويعني هذا إلزامَ “إسرائيل” بتعويض الفلسطينيّين عن الأضرار الناجمة عن أعمال الإبادة الجماعيّة وإعادة الحال إلى ما كانتْ عليه، كالانسحاب من الأراضي التي احتلّتْها وإعادة إعمارها والاعتذار عن الجرائم المُرتكَبة، وغير ذلك من الإجراءات التي أقرّتْها لجنةُ القانون الدوليّ عام 2001 حولَ مسؤولية الدولة عمّا قد ترتكبُهُ من أعمال خاطئة.
كما أنّ الدّعوى التي رَفَعَتْها جنوبُ إفريقية من حقِّها أيضاً أن تُحاسِبَ كُلَّ من يقفُ مع الكيان الصهيونيّ، ويُقدِّمُ الدَّعْمَ إليه بمختلف أشكاله، ولا سيّما أنّ اتفاقيّةَ مَنْعِ الإبادة الجماعيّة لا تكتفي بتجريم مُرتكبِ هذه الأفعال ومُعاقَبَتِهِ فحسب، بل تنصُّ في مادّتها الثالثة على تجريم ومُعاقبة “كلّ مَنْ يتآمرُ أو يُحرِّضُ أو يُحاوِلُ أو يُشارِكُ فعليّاً في ارتكابها”، وهذا ما يعني أنّ حكومةَ جنوب إفريقية تعي تماماً ما قامَتْ بهِ من خطوة مُتقدِّمَة، يُمكنُ أن تكونَ لها تداعياتٌ سلبيّةٌ وخَطِرَةٌ على هذه الدولة المعروفة تاريخياً بنضالها ومُناهضَتِها للظُّلم والإجرام، ويُؤكِّدُ هذا ما قالَهُ رئيسُ جنوب إفريقية “سيريل رامافوزا” أمامَ برلمان بلاده في تعليقه على رَفْعِ بلاده دعوى اتِّهامٍ ضدَّ الكيان الصهيونيّ لارتكابه حربَ إبادةٍ في قطاع غزّة، مُؤكِّداً “أنّهُ لم يَشعُرْ، سابقاً، بالفخر الذي يشعرُ به اليوم”، مُضيفاً أنّ “هدفَ بلادِه من فتحِ هذه الدّعوى القضائيّة هو وَقْفٌ كامِلٌ لهذه الإبادة الجماعيّة في قطاع غزّة. نعم، إنّها خطوةٌ محفوفةٌ بالمخاطر، وقد تترتّبُ عليها أضرارٌ، ويُهاجِمُوننا، لكنّنا سنظلُّ مُتَمسِّكينَ بمبادئنا، فلن نكونَ أحراراً حقّاً ما لم يتحرّر الشّعبُ الفلسطينيُّ أيضاً”.
وإذا كانت دولةُ جنوب إفريقية قد قدّمَتْ مُرافَعَةً قانونيّةً وإنسانيّةً وأخلاقيّةً مُتكاملةَ العناصر، قويّةَ الحجج والبراهين في بداية الجلسات، وهو ما زادَ تعريةَ الكيانِ الصهيونيِّ وفَضْحَهُ دولياً، فإنّ الخطوةَ الجنوب إفريقيّة نجحَتْ أيضاً في تعريةِ الإعلام الغربيِّ المُنحاز إلى القتلة وجرائمهم في فلسطينَ المُحتلّة، بعدَ امتناع قنوات: “فوكس نيوز”، و”سكاي نيوز”، و”هيئة الإذاعة البريطانية”، و”دويتشه فيليه”، و(NBC)، و”سي. أن. أن” و(MSNBC)، و(CNBC)، و(CBS) عن عَرْضِ مُرافَعةِ جنوب إفريقية، الّتي تفضحُ أفعالَ الاحتلالِ وجرائِمَهُ في حرب الإبادة “الإسرائيليّة” على غزّةَ منذُ أكثرَ من مئةِ يوم، في الوقت الذي عمدَتْ فيهِ قناةُ “سكاي نيوز”، وصحيفةُ “ذا غارديان” البريطانيّتان إلى نَشْرِ البثِّ المُباشر للدِّفاع “الإسرائيليّ” ضدّ اتّهامه بالإبادَةِ الجماعيّةِ في محكمة العدل الدوليّة.
إنَّ ما قامَتْ به المُقاوَمةُ اليمنيةُ مِنْ إذلالٍ وتركيعٍ للإدارة الأميركية والصهاينة بدَعْمِها غيرِ المحدود للشعب الفلسطينيّ، وما قامَتْ به دولةُ جنوب إفريقية مِنْ دعوةٍ عملية إلى مُحاسَبةِ الكيان الصهيونيّ وداعميه أمامَ محكمةِ الجنايات الدوليّة في “لاهاي” سيبقى شاهداً على الدعم الكبير الّذي قدّمَهُ الأشقّاءُ في اليمن وجنوب إفريقية إلى الشعب الفلسطينيّ المُقاوِم، وهو دعمٌ من شأنه أن يجعلَ الأشقّاءَ في البلدَينِ يدفعُونَ ثمنَهُ، والعدوانُ الأميركيُّ العالميُّ على اليمن قبلَ أيام دليلٌ على هذا، ولكنَّ الأيامَ ستُثبِتُ أنَّ إرادةَ الشعب الفلسطينيّ ودَعْمَ الأشقّاء أقوى من أيِّ عدوان، وسيتحرّرُ الشعبُ الفلسطينيُّ من المُحتلِّ، وتنتصرُ مُقاوَمتُهُ مهما طالَ الزمنُ، تماماً كما انتصرَتْ إرادةُ الأشقّاء في جنوب إفريقية على سياسة الفصل العُنصريِّ المُتحالفةِ معَ الكيان الصهيونيّ.

الكاتب السوري .

*د. محمد الحوراني

You might also like