هل تفقد أمريكا دورها كشرطي العالم لتصبح لاعبًا هامشيا؟

إب نيوز ١ فبراير

يبدو أن الولايات المتحدة الامريكية تخوض مواجهة شرسة مع التاريخ والجغرافيا ومع نفسها ايضا

في آنٍ واحد…. في عام 2024، وجدت الولايات المتحدة نفسها وقد فرضت عقوبات على أكثر من 60% من الدول ذات الدخل المنخفض،والمتوسط حول العالم وفقا لتحليل نشرته صحيفة “واشنطن بوست”. هذه العقوبات، التي تنوعت في أسبابها وشدتها، امتدت من كوريا الشمالية إلى إيران، ومن روسيا إلى إثيوبيا والصين واليمن وغيرها

لقد تحولت العقوبات إلى سلاح ذي حدين تُضعف الخصوم، لكنها تُسرّع أيضا في نحت نهاية عصر الهيمنة الأمريكية.

السؤال الذي يُقلق مراكز الأبحاث من واشنطن إلى بروكسل هل تدفع الولايات المتحدة نفسَها نحو الهاوية خصوصا مع عودة ترامب للبيت الابيض ؟

لقد ادى السلوك الامريكي المتعجرف ضد العالم بفرض عقوبات الى نشوء تكتلات ومنظمات اقتصادية منها

 تحالف “بريكس”، الذي تحول من تجمع هامشي إلى تكتل يهدد امريكا اقتصاديا

حين أعلنت المجموعة — البرازيل، روسيا، الهند، الصين، جنوب إفريقيا — عن تعزيز استخدام العملات المحلية في تجارتها، لم تكن مجرد خطوة تقنية كان ذلك إعلانا صريحا عن رفض التبعية للدولار.

 البنك الجديد للتنمية، الذي أنشأته بريكس، لم يعد مجرد منافس لصندوق النقد الدولي، بل أصبح رمزا لـ”تمرد” اقتصادي ضد النظام الأمريكي.

 تقرير لـ”فاينانشال تايمز” في يونيو 2024 أشار إلى أن 40% من التبادلات التجارية بين دول بريكس تُسوَّق الآن بعملات غير الدولار، بينما تُخطط السعودية — العدو القديم لإيران — للانضمام إلى التحالف: “النفط لن يبقى رهينة للدولار إلى الأبد”.

لكن ترامب، الذي عاد إلى البيت الأبيض بالامس بخطاب وشعار “أمريكا أولاً”، لم يقرأ المسار الذي تتجه اليه بلاده وبدلا من إصلاح الجسور مع الحلفاء، أضرم النار فيها وبدأ بتصريحات خارجة عن المألوف يهدد فيها بضم كندا لأن تكون ولاية تابعة لأمريكا متعهدا باستخدام القوة الاقتصادية ووفقا لصحيفة وول ستريت جورنال فان ترامب يستعد لفرض رسوم جمركية جديدة على كندا وكذلك على المكسيك ولم تسلم الدنمارك ايضا حيث أعرب الرئيس الأمريكي مجددا  عن ثقته بأن الولايات المتحدة ستحصل حتما على جزيرة غرينلاند التابعة حاليا لمملكة الدنمارك.

وكذلك الدول الاوروبية  التي هدد ترامب في وقت سابق برفع الرسوم الجمركية عليها والانسحاب من الناتو وحتى على بنما، الدولة التي تربطها بأمريكا معاهدة قناة بنما منذ 1977 والتي هدد ترامب بضمها لامريكا

لم تكن هذه الخطوات سوى فصل من سياسةٍ أشبه بـ”انتحار استراتيجي” وهو ما يذكرنا بعبارة للمفكر الأمريكي جون ميرشايمر : “عندما تعاقب أصدقاءك، فأنت لا تعزز قوتك، بل تدفعهم إلى أحضان أعدائك”.

النتيجة تحالف غير مقدَّر بين خصوم أمريكا. روسيا والصين، اللتان تتصدران قائمة العقوبات، تعملان على تعزيز تحالفهما العسكري والاقتصادي. إيران، التي عانت لعقود تحت الحظر، تجد نفسها فجأة شريكًا استراتيجيًا في مشاريع بريكس. حتى أوروبا، الحليف التقليدي، بدأت تبحث عن مسارات بعيدة عن واشنطن.

 في تقرير لـ”نيويورك تايمز” في مايو 2024 كشف أن الاتحاد الأوروبي يدرس إنشاء نظام دفع موازٍ لـ”سويفت” لتجنب العقوبات الأمريكية.

لم يعد التمرد الأوروبي مجرد تهديدات دبلوماسية فقبل أسابيع، كشفت “لوموند” عن وثيقة سرية للاتحاد الأوروبي تُفصّل خطة “اليورو الموازي” – عملة رقمية مبنية على تقنية بلوكتشين – لتسوية المدفوعات الدولية بعيدًا عن الدولار.

الجدير بالذكر أن النظام الجديد يستفيد من أخطاء الماضي: فبعد تجربة “آلية INSTEX” لتفادي العقوبات على إيران (التي فشلت بسبب الضغوط الأمريكية)، تعمل بروكسل الآن على جذب دول آسيوية مثل سنغافورة والإمارات لضمان كتلة نقدية حرجة.

الى جانب تحالف بريكس هناك تكتلات إقليمية صاعدة تُعيد تشكيل النظام العالمي، معتمدة على تعزيز التعاون الاقتصادي والعسكري بعيدًا عن الدولار الأمريكي والنفوذ الغربي.

من أبرز هذه التكتلات اتحاد دول غرب إفريقيا (ECOWAS) وتحالف “أسيان” مع الصين، اللذان يمثلان نموذجين لتحولات جيوسياسية واقتصادية تُهدد النظام الأحادي القطبية الذي هيمنت عليه امريكا لعقود.

لقد ادى تشكيل هذه التكتلات الى تزايد حجم التبادلات التجارية بعملات غير الدولار، وبدأ النظام المالي العالمي يشهد تحولًا تدريجيًّا نحو تعددية العملات، مما يُضعف هيمنة الدولار كعملة احتياطية عالمية.

السخرية هنا أن العقوبات — السلاح الذي اخترعته أمريكا لتعزيز هيمنتها — صارت تُستخدم لضربها على الأرض، تتحول العقوبات إلى سكين في خاصرة الاقتصاد الأمريكي… ارتفاع أسعار السلع، تراجع الصادرات، وتآكل الثقة في الدولار ليست سوى غيض من فيض ففي الداخل، يستيقظ المواطن الأمريكي على واقعٍ تزداد فيه بطاقته الائتمانية عديمة الفائدة خارج حدوده.

ووفقا تقرير لـ”وول ستريت جورنال” أشار إلى أن احتياطي الدولار العالمي انخفض إلى 55% في 2024 — أدنى مستوى منذ عام 1999 — بينما يرتفع اليوان الصيني والروبل الروسي في التعاملات الآسيوية والأفريقية.

كما ان ضرر العقوبات الامريكية لايقتصر على تراجع الدولار ففي يوليو 2024 اصدر  “معهد بروكنجز ” تقريرا اكد فيه أن الشركات الأمريكية خسرت 120 مليار دولار من العقود السنوية في قطاعي التكنولوجيا والطاقة بسبب القيود على التصدير إلى الصين.

حتى قطاع الزراعة – الذي ظل لسنوات ركيزة للاقتصاد – يعاني من منافسة البرازيل والأرجنتين في أسواق كانت تُعتبر “حديقة خلفية” لواشنطن. اللافت أن الصين استغلت الفرصة ببراعة، حيث ارتفعت استثماراتها في أمريكا اللاتينية بنسبة 300% منذ 2020، وفقًا لـ”منظمة التعاون الاقتصادي للتنمية”.

لم تعد العقوبات مجرد أداة للضغط السياسي، بل تحولت إلى “مُعجّل تاريخي” لإعادة رسم الخرائط المالية. فبالإضافة إلى تداول 40% من تجارة بريكس بعملات غير الدولار، تشير وثائق مسربة من البنك المركزي الصيني (يونيو 2024) إلى أن بكين تستعد لإطلاق “منصة دفع رقمية” باليوان لدول التحالف، مدعومة باحتياطيات الذهب التي اشترتها الصين بمعدل 200 طن سنويًّا منذ 2020. حتى الهند – التي ظلت لسنوات حذرة من التمرد على الدولار – بدأت تتفاوض مع الإمارات لشراء النفط بالروبية، في صفقةٍ تعكس تحولًا جيوسياسيّا لم يكن ليحدث لولا الضغط الأمريكي المفرط.

هذا ناهيك عن التنافس التكنولوجي المتصاعد بين الولايات المتحدة والصين،حيث أصبحت تقنيات الـ(5G) والذكاء الاصطناعي محورًا رئيسيّا في معركة الهيمنة العالمية. شركات صينية مثل هواوي تمكنت من الهيمنة على البنية التحتية للاتصالات في دول “بريكس”، مما منح بكين قدرة غير مسبوقة على مراقبة البيانات وتوجيهها. هذا التوسع الصيني في مجال الاتصالات يُضعف الأدوات الاستخباراتية الأمريكية، التي كانت تعتمد تاريخيّا على سيطرتها على شبكات الاتصالات العالمية لجمع المعلومات الاستخباراتية. وفقًا لتقارير متخصصة، فإن انتشار تقنيات هواوي في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية يُشكل تهديدًا مباشرًا للأمن القومي الأمريكي، حيث تُصبح البيانات الحساسة عرضة للوصول الصيني.

في موازاة ذلك، أدت عقوبات واشنطن على تصدير الرقائق الإلكترونية عالية التقنية إلى الصين إلى تسريع برنامج صيني طموح لتصنيع رقائق محلية.

 وفقا لتقرير “بزنس إنسايدر” في يوليو 2024، استثمرت الصين مليارات الدولارات في تطوير صناعة رقائق محلية، مما قلل من اعتمادها على الشركات الأمريكية مثل إنتل وإنفيديا. هذه الخطوة لم تُضعف فقط الهيمنة الأمريكية في سوق الرقائق العالمية، بل ساهمت أيضًا في تعزيز القدرات التكنولوجية الصينية، مما يُشكل تحديًا كبيرًا للتفوق التكنولوجي الأمريكي.

بالامس شهدت الأسهم الأمريكية انخفاضا حادًّاحيث خسرت شركة إنفيديا، العملاق في صناعة الرقائق، ما يقرب من 600 مليار دولار من قيمتها السوقية.

 هذا الانخفاض جاء بعد إعلان شركة الذكاء الاصطناعي الصينية DeepSeek عن تقدم مفاجئ في مجال الذكاء الاصطناعي. الشركة الناشئة، التي لم يتجاوز عمرها عامًا واحدًا، كشفت عن نموذج ذكاء اصطناعي يُدعى R1، والذي يتمتع بقدرات مشابهة لتلك الخاصة بمنصات مثل ChatGPT، ولكن بتكلفة ضئيلة للغاية مقارنة بالشركات الأمريكية. وفقًا لبيانات الشركة، فإنها أنفقت فقط 5.6 مليون دولار على قوة الحوسبة لنموذجها الأساسي، مقارنة بمئات الملايين أو حتى المليارات التي تنفقها الشركات الأمريكية مثل OpenAI أو Google أو Meta.

هذا التقدم الصيني في مجال الذكاء الاصطناعي يُهدد الهالة التي كانت تحيط بصناعة التكنولوجيا الأمريكية، والتي كانت تُعتبر لفترة طويلة الرائدة في هذا المجال.  انه تطور يُعزز من مكانة الصين كمنافس رئيسي في مجال التكنولوجيا المتقدمة، ويُضعف من التفوق التقليدي للولايات المتحدة، مما يُشكل تحديًا كبيرًا لواشنطن في الحفاظ على هيمنتها التكنولوجية في عصر الذكاء الاصطناعي.

وبينما تستخدم واشنطن أدوات القرن العشرين، تبتكر الخصوم أدوات القرن الحادي والعشرين. فالصين – على سبيل المثال – تعتمد على تقنيات الذكاء الاصطناعي لتتبع تأثير العقوبات على اقتصادات الدول المستهدفة، وتقديم حلول مالية بديلة في الوقت الفعلي هذه “الحرب الباردة الرقمية” قد تكون المعركة التي لم تُدرك واشنطن أنها خسرتها بالفعل.

لكن الأخطر هو ما يحدث في الشارع الأمريكي. الانقسام الذي خلقه ترامب منذ ان تولى رئاسته الأولى بين مؤيدٍ يُردد شعار “أمريكا أولاً” ومعارضٍ يرى أن السياسات الحمائية تقتل مكانة البلاد — لم يعد مجرد خلاف سياسي إنه انقسام وجودي

وفقا لاستطلاع لـ”بيو ريسيرش” في أبريل 2024 وجد أن 70% من الشباب الأمريكي تحت سن 35 يرون أن بلادهم “تتراجع كقوة عظمى”، بينما يعتقد 58% من كبار السن أن ترامب “يحمي امريكا من أعدائها”. هذا الشرخ يهدد بتفكيك النسيج الاجتماعي، ويدفع المؤسسات الديمقراطية إلى حافة الانهيار.

الانقسامات الداخلية تجاوزت السياسة إلى الهوية الوطنية نفسها. ففي ولاية تكساس – المعقل الجمهوري – طالب الحاكم بمنع استخدام اليوان في المعاملات المحلية، بينما أقرت كاليفورنيا (المُسيطر عليها ديمقراطيّا) قانونًا يسمح للشركات بالتعامل بالعملات الرقمية الصينية. هذه “الانفصامية المالية” تعكس تحولًا خطيرًا: فـ”الولايات” المتحدة تتحول إلى “دولٍ متنافرة” في مواجهة نظام عالمي جديد.

ترامب، الذي يرفع شعار “أمريكا أولاً” هو في الواقع يقدّم خدمةً غير مباشرة لقوى مثل الصين وروسيا. فالعقوبات الواسعة النطاق، التي غالباً ما تُستخدم كسلاح اقتصادي، دفعت الدول المستهدفة إلى البحث عن بدائل.

صحيفة “واشنطن بوست” أشارت إلى أن الحروب التجارية التي أشعلها ترامب خلال ولايته الأولى أثرت بشكل عميق على الاقتصاد الأمريكي ذاته، إذ ارتفعت أسعار السلع وتراجعت الصادرات، وهو ما أضر بالمواطن الأمريكي البسيط

على الصعيد الدولي، فان السياسات العقابية لترامب جعلت من الولايات المتحدة هدفاً للانتقاد العالمي. تقارير إعلامية أمريكية تحدثت عن أن حلفاء واشنطن بدأوا يفقدون الثقة في قدرتها على القيادة. ومع تزايد نفوذ قوى مثل الصين، التي تستثمر مئات المليارات في مبادرات مثل “الحزام والطريق”، يبدو أن العالم يتجه نحو نظام متعدد الأقطاب. هذا النظام الجديد، الذي يتبلور تدريجياً، قد يكون بداية نهاية الهيمنة الأمريكية التي استمرت لعقود

هل حقا نشهد بداية تراجع الإمبراطورية الأمريكية؟ الإجابة قد تكون في كتابات المؤرخ البريطاني نيل فيرغسون، الذي حذّر في مقال له بـ”التايمز” من أن “الإمبراطوريات لا تسقط بسبب الغزاة، بل بسبب قادتها الذين يظنون أن القوة لا تُفقد”. اليوم، تمنح العقوبات وحروب ترامب الصدامية الصين وروسيا هديةً ثمينة: فرصة لملء الفراغ الذي تخلقه واشنطن بنفسها. فكلما زادت العقوبات، زادت رقعة الدول التي تبحث عن ملاذات خارج النظام الأمريكي.

لكن السيناريو الأكثر قتامةً هو أن تصبح أمريكا — كالإمبراطورية الرومانية — ضحية لغرور قادتها

 حين سُئل هنري كيسنجر عن مستقبل الهيمنة الأمريكية في حوار مع “الإيكونوميست”، أجاب: “الولايات المتحدة لا تزال قوية، لكنها لم تعد القوة الوحيدة التي تُحرك العالم”. ربما تكون هذه العبارة هي النبوءة الأقرب للحقيقة: عالمٌ متعدد الأقطاب يولد من رحم سياسات ترامب، حيث تتراجع أمريكا من “شرطي العالم” إلى لاعبٍ بين لاعبين.

ان التاريخ يقدم دروساً قاسية للإمبراطوريات التي تستهين بتغير التحالفات العالمية. ففي عام 1956، أجبرت العقوبات الأمريكية بريطانيا وفرنسا على الانسحاب من قناة السويس، لتبدأ حقبة الهيمنة الأمريكية. اليوم، تُكرر واشنطن نفس الأسلوب لكن بنتائج عكسية.

 تقارير “نيويورك تايمز” تشير إلى أن 58% من الدول التي فرضت عليها أمريكا عقوبات خلال العقد الماضي تعززت علاقاتها مع الصين، في حين بدأ الاتحاد الأوروبي – لأول مرة منذ تأسيس حلف الناتو – مناورات عسكرية مشتركة مع دول آسيوية خارج الإطار الأمريكي. السؤال الذي يطرح نفسه بقوة: هل يمكن لواشنطن أن توقف هذا الانزياح العالمي وهي منشغلة بحروبها الداخلية وانقساماتها؟

الواقع الجديد يشير إلى أن النظام الدولي يتحول إلى فسيفساء من التحالفات الإقليمية والمصالح المتشابكة، حيث لم تعد الأسلحة النووية أو الحاملات العملاقة كافيةً لحماية مكانة الإمبراطورية. العقوبات الأمريكية، التي أرادت بها واشنطن تأكيد هيمنتها، قد تكون القطعة الأخيرة في أحجية زوالها كـ”شرطي للعالم”.

في النهاية، السؤال الذي يطرح نفسه بقوة هو إلى أين تتجه أمريكا؟ الإجابة، وفقاً لشواهد الحاضر، تبدو معقدة. ترامب، بأسلوبه الصدامي وسياسته التي تفتقر إلى التوازن، قد يدفع الولايات المتحدة نحو مرحلة من العزلة الدولية غير المسبوقة. هذه العزلة لن تكون مجرد مسألة سياسية، بل ستكون انعكاساً لتحولات عميقة في موازين القوى العالمية. عالم متعدد الأقطاب بدأ يتشكل، وأمريكا، التي كانت يوماً قلبه النابض، قد تجد نفسها في الهامش، تبحث عن دور جديد يناسب حجمها في نظام عالمي جديد

 

كامل معمري صحفي متخصص في الشأن العسكري:

You might also like