التهجير كأداة استعمارية: من جابوتنسكي إلى نتنياهو.. مسار لم يتغير
إب نيوز ١١ فبراير
كامل المعمري
تشكل التصريحات الأميركية والإسرائيلية المكثفة حول تهجير سكان غزة نموذجاً خطيراً لاستراتيجية تعتمد على التلاعب بالوعي الجمعي، حيث تحول الفكرة المستحيلة إلى احتمال متخيل، ثم إلى خيار “مقبول” عبر تكرارها في الخطاب الإعلامي والسياسي.
هذه الآلية ليست جديدة في تاريخ الصراعات، لكنها تكتسب شراسة أكبر اليوم مع توظيف أدوات العولمة الإعلامية، وتواطؤ صمت دولي يسهل تحويل الكارثة الإنسانية إلى مسلمة سياسية.
فكلما تكررت كلمة “التهجير” مقترنة بأسماء دول عربية، كسرت حواجز الرفض الأخلاقي تدريجياً، تماماً كما يثقب الجبل بالتنقيط، حتى يصبح التفكير في التهجير جزءاً من “الحلول المطروحة” وليس جريمة يحاسب عليها القانون الدولي.
تعتمد هذه الاستراتيجية على مبدأين نفسيين رئيسين الأول هو “تأثير التكرار” الذي يجعل الأكاذيب تصبح مألوفة فتقبل كحقائق، والثاني هو “نظرية النافذة الزجاجية” التي توسع حدود الممكن في الخطاب العام. ففي حرب العراق، حول التكرار ادعاء امتلاك العراق لأسلحة دمار شامل إلى “حقيقة” رغم افتقادها للأدلة، وفي السياق الفلسطيني، تستخدم اللعبة نفسها لتحويل التطهير العرقي من جريمة إلى “ضرورة أمنية”. اللافت أن هذا التكتيك لا يعمل بمعزل عن السياق الاستعماري الأوسع؛ فإسرائيل، التي تأسست على تهجير الفلسطينيين عام 1948، تعيد إنتاج نفس السردية، لكن بأساليب تتناسب مع عصر “الحروب الهجينة”، حيث تخاض المعارك في الإعلام قبل الميدان.
ان الحديث المتعمد والمتكرر عن تهجير سكان غزة ليس استفزازا عابرا بل هو إعادة إنتاج للسردية الصهيونية التي تأسست عليها إسرائيل منذ بدايات المشروع الصهيوني، فقد كانت فكرة تفريغ الأرض من سكانها الأصليين محورا أساسيا في التخطيط الاستراتيجي للحركة الصهيونية، وهو ما تجلّى بوضوح في نكبة عام 1948، عندما نفذت الجماعات الصهيونية عمليات تهجير ممنهجة للفلسطينيين، موثقة بوضوح في الأرشيفات الإسرائيلية نفسها.
كذلك التطهير العرقي للفلسطينيين في 1948 لم يكن نتيجة جانبية للحرب، بل كان سياسة مخططة سلفا. يكشف المؤرخ الصهيوني إيلان بابيه في كتابه التطهير العرقي في فلسطين 2006 كيف أن ديفيد بن غوريون وقادة الحركة الصهيونية قرروا تنفيذ خطة “داليت”في مارس 1948، وهي الخطة التي وضعت الأساس لتهجير السكان الفلسطينيين قسرًا من مدنهم وقراهم.
هذه الخطة نصّت صراحة على “تدمير القرى وطرد السكان وهو ما أدى إلى نزوح أكثر من 750,000 فلسطيني في عملية تطهير عرقي ممنهجة.
وفي مذكراته، يعترف رئيس الوزراء الإسرائيلي الأول ديفيد بن غوريون قائلا “علينا أن نستخدم الإرهاب والطرد والتهديد للقضاء على سكان فلسطين.”
هذه السياسة ليست كلمات، على ورق بل تُرجمت إلى مجازر وحملات تهجير قسري كانت مجزرة دير ياسين 9 أبريل 1948 واحدة من المحطات الدموية التي استخدمتها الجماعات الصهيونية، مثل الإرغون وشتيرن، لبث الرعب بين الفلسطينيين ودفعهم إلى الفرار وقد أُتبع ذلك بسلسلة من المجازر الأخرى، مثل مجازر اللد والرملة، حيث قتل الصهاينة مئات الفلسطينيين وأجبروا الآلاف على مغادرة مدنهم تحت تهديد السلاح.
في الوثائق الإسرائيلية، يكشف بابيه كيف أن بن غوريون كان يُناقش بشكل واضح مع قيادات الهاجاناه طرق تنفيذ عمليات الطرد الجماعي في أحد الاجتماعات السرية، قال بن غوريون بوضوح يجب أن نجعل الفلسطينيين يدركون أنهم غير مرحب بهم هنا… وإذا لم يرحلوا طوعا، فعلينا أن ندفعهم إلى ذلك بالقوة.
في نفس الفترة، أرسل بن غوريون رسائل لقادة الميليشيات الصهيونية يأمرهم فيها بـ”القيام بعمليات مسح سكانية” بهدف معرفة القرى الفلسطينية التي يجب “إزالتها” لضمان إنشاء دولة يهودية ذات أغلبية مطلقة كان التهجير الجماعي جزءًا لا يتجزأ من مشروع بناء إسرائيل، وليس استثناءً عرضيًا.
زئيف جابوتنسكي يُعد من أبرز المفكرين الصهاينة الذين أسسوا للأيديولوجيا القومية المتشددة داخل الحركة الصهيونية، وهو المؤسس الفعلي للصهيونية التصحيحية، التي أصبحت لاحقا الأساس الأيديولوجي لحزب الليكود الإسرائيلي كان جابوتنسكي من أشد المؤمنين بأن المشروع الصهيوني لا يمكن أن ينجح إلا من خلال القوة، ورفض بشكل قاطع أي محاولة للتفاهم مع العرب أو التوصل إلى اتفاقيات سلمية معهم، لأن الصراع بالنسبة له لم يكن مجرد خلاف سياسي، بل صراع وجودي على الأرض.
في عام 1923، كتب جابوتنسكي مقالا شهيرا بعنوان جدار الحديد في الصحافة الروسية حيث وضع فيه الأسس النظرية لما اعتبره الطريقة الوحيدة لضمان نجاح المشروع الصهيوني في فلسطين كان جوهر هذا المقال يتمحور حول فكرة أن العرب الفلسطينيين لن يقبلوا أبدًا الاستعمار الصهيوني لأرضهم، وبالتالي، فإن الحل الوحيد أمام الحركة الصهيونية هو فرض سيطرتها بالقوة وإقامة “جدار حديدي” من القوة العسكرية التي تجعل الفلسطينيين يفقدون الأمل في مقاومة المشروع
الصهيوني. كتب جابوتنسكي بوضوح
“يجب أن يكون واضحًا تماما أن لا اتفاق ممكنًا بيننا وبين العرب نحن لا نريد مجرد العيش معهم، نحن نريد الأرض بدون سكانها.”
رؤية جابوتنسكي أصبحت الأساس الذي قامت عليه السياسة الإسرائيلية لاحقا وخاصة فيما يتعلق بالتعامل مع الفلسطينيين.
فقد اعتمدت إسرائيل عبر تاريخها على مفهوم “جدار الحديد” في تعاملها مع المقاومة الفلسطينية، حيث لجأت إلى القمع العسكري، وبناء الجدران الفعلية، وفرض الوقائع على الأرض من خلال التوسع الاستيطاني. وبالرغم من مرور عقود على وفاة جابوتنسكي، لا يزال إرثه حاضرًا في السياسات الصهيونية الحالية التي تقوم على مبدأ أن السلام لا يتحقق عبر التفاهمات، بل عبر الهيمنة الكاملة وفرض الاستسلام على الطرف الآخر.
يتجلى تأثير جابوتنسكي أيضًا في العقيدة الأمنية الإسرائيلية، التي ترى أن الحل الوحيد لأي تهديد عربي هو استخدام القوة الساحقة، ورفض أي تسوية لا تضمن التفوق الإسرائيلي المطلق.
ولهذا السبب، نجد أن النهج الإسرائيلي في التعامل مع القضية الفلسطينية استمر في التوسع الاستيطاني، ورفض الاعتراف بحقوق الفلسطينيين، والعمل على تغيير الحقائق على الأرض بحيث يصبح من المستحيل التراجع عنها.
إسرائيل اليوم تعيد إنتاج هذا المنطق عبر خطابها الإعلامي، ولكن بأساليب أكثر تطورًا تتناسب مع عصر “الحروب الهجينة”، حيث يتم التلاعب بالرأي العام العالمي وتبرير الجرائم تحت غطاء “الأمن القومي” أو اعادة التوطين وبالتالي محاولة تفريغ القضية الفلسطينية من جوهرها، وتحويلها من قضية تحرر وطني إلى “مشكلة لاجئين” يمكن حلها بتوزيعهم في دول الجوار.
تحاول إسرائيل، بدعم أميركي، إعادة كتابة الرواية الفلسطينية عبر نزع صفة “الشعب” عن الفلسطينيين، وتحويلهم إلى مجموعة من الأفراد الذين يمكن إعادة توطينهم هنا أو هناك، كقطع شطرنج في لعبة القوى الكبرى.
لا تقتصر خطورة هذه الاستراتيجية على التطبيع مع فكرة التهجير فحسب، بل تمتد إلى تشويه القانون الدولي نفسه. فالقانون الذي يجرم الترحيل القسري، ويحمي حق اللاجئين في العودة، يعاد تصويره عبر هذه السرديات كعقبة أمام السلام بينما تقدم إسرائيل كضحية للعنف، تحتاج إلى إجراءات جذرية لحماية أمنها
في المقابل، فإن الرفض العربي الرسمي لسيناريو التهجير، رغم أهميته، لا يكفي لمواجهة الآلة الإعلامية الغربية-الإسرائيلية التي تعمل على مدار الساعة. فالقوة الناعمة للإعلام العبري، المدعومة بمنصات التواصل الاجتماعي ومراكز الأبحاث الممولة غربياً، تنتج يومياً سيلاً من الأخبار والتحليلات التي تركز على كثافة السكان في غزة وتطرفهم كتمهيد لشرعنة التهجير.
هذه الحملات لا تستهدف الرأي العام العالمي فقط، بل تحاول اختراق المجتمعات العربية نفسها عبر تصوير فكرة التهجير كحل منطقي، وإغراق المشهد بسرديات تعزز تقبل الكارثة كأمر واقع. لا يمكن فصل هذا عن مشاريع التطبيع التي تحاول إعادة تشكيل العقل الجمعي العربي بحيث يتعامل مع إسرائيل كدولة طبيعية لا كقوة احتلال. هذا التكتيك ليس جديداً، فقد اعتمدته واشنطن في كل حروبها، حيث تبدأ المعركة بالتصريحات وتنتهي بالمجازر.
التاريخ يقدم دروساً قاسية، فما بدأ كتصريحات عن محاربة الإرهاب في خطابات بوش تحول إلى سياسة استعمار جديدة، وهو ما حدث في أفغانستان وغيرها من البلدان العربية وارتكاب مجازر لا حصر لها. وما بدأ كشائعات عن “تخطيط الأقلية التوتسي للانقلاب في رواندا تحول إلى إبادة جماعية.
الفاشية لا تعلن عن نفسها صراحة في البداية، بل تتسلل عبر الكلمات التي تكرر حتى تصبح عادية اليوم
لكن محاولات شطب الذاكرة الجماعية للشعوب تفشل دوماً على المدى الطويل فكما أن تهجير الفلسطينيين عام 1948 لم يمحُ هويتهم، بل حول اللجوء إلى رمز للنضال، فإن أي محاولة جديدة لاقتلاعهم ستنتج مقاومة أشد، لأن الجغرافيا ليست مجرد أرض، بل هي وعي يترسخ مع الأجيال.
ان الصمود الفلسطيني، الممتد من القدس إلى غزة، يذكر العالم بأن الحقوق لا تورث بالتكرار الإعلامي، ولا تنسى بالتهجير، بل تولد من رحم الإصرار على أن تكون إنساناً، حتى عندما تحاصرك كل آلات التشويه.
ولهذا يجب أن ينتقل الموقف العربي الرسمي من مرحلة الإدانات الرخوة للتهجير إلى الواقع العملي، وذلك من خلال تسريع إعادة إعمار غزة كأداة لقطع الطريق على المخططات التهجيرية. مثل هذا الإجراء ليس إنسانياً فحسب، بل يضعف السردية الإسرائيلية التي تصور غزة كمنطقة “غير قابلة للحياة”، ويفشل محاولات ترامب لاستخدام الدمار كذريعة للترحيل. إنها خطوة ضرورية لتحويل الخطاب العربي من الكلام إلى الفعل، ومن الرفض السلبي إلى العمل الإيجابي.