زمنٌ أصبحت فيه الإنسانية مجرّد كلمة!
إب نيوز ٦ إبريل
عدنان عبدالله الجنيد:
أيُّ زمنٍ هذا الذي نعيشه؟!
وأيُّ قلوبٍ تلك التي لا ترتجف لرؤية الدماء؟!
وأيُّ ضمائر ماتت فلم تهتزّ لبكاء طفلٍ يتيم، أو أنين أمٍّ ثكلى، أو نظرة عجوزٍ تُطرَد من أرضها؟!
أهي الدنيا تغيّرت، أم نحن الذين خنقنا فينا آخر أنفاس الرحمة؟!
عجيبٌ أمر هذا العصر!
أصبحت “الإنسانية” لفظًا يُتغنّى به في الخُطب، ويُزيّن به الإعلام عناوينه، وترفعه المؤسسات في شعاراتها… ثم ماذا؟
أين هي حين يُدفن أطفال غزّة تحت ركام بيوتهم؟
أين هي حين يُجلد الأسير في الزنازين، أو يُهان المرء بسبب لونه أو دينه؟
أين هي حين يتضوّر الجائع جوعًا، وتُلقى الأطعمة في المزابل؟!
وتزداد الفاجعة فظاعة حين نرى بأمّ أعيننا كيف يُراد إبادة أكثر من مليوني إنسان في غزّة، بحصارٍ خانق، وحرمانٍ من الماء والغذاء والدواء، بعد أن فشل العدو في اجتياحها أو تهجير أهلها، فصبّ حقده على المدنيين، لتمتلئ السماء بأشلائهم، والأرض بجراحهم.
فأيُّ حضارةٍ تلك التي يفاخر بها الغرب؟
وهل جرائم نتنياهو تمثّل “النهج الإنساني” الذي يتغنّى به ساسة الغرب؟!
يا للمفارقة!
كيف أصبحت “الإنسانية” كلمةً خاوية، والكتب السماوية كلُّها قد دعت إلى الرحمة، والتراحم، والتوحيد، وصيانة كرامة الإنسان؟
ألم يبعث الله نوحًا، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمدًا – عليهم جميعًا أزكى السلام – لهداية البشر إلى قيم الخير، ونبذ الظلم، وتعظيم حرمة الإنسان؟
أليست رسالات الأنبياء جميعًا تؤكّد أنّ الإنسان مكرّمٌ عند الله، لا يُهان ولا يُذلّ ولا يُقصى؟
فكيف، بعد هذا الإرث النبوي العظيم، نرى من يقتل باسم الدين، ويشرّد باسم السلام، ويصمت عن الظلم باسم القانون؟!
كيف تاهت بوصلة الرحمة؟!
وكيف سكتنا على انحدار الأخلاق، ونحن نمتلك تراثًا من النور والهداية؟!
وزِدْ على ذلك مرارةَ الزيف الدولي!
أين هي القوانين؟
أين مواثيق الأمم المتحدة التي تتغنّى بـ”حق تقرير المصير” و”حماية المدنيين”؟
أما كُتبت تلك المواثيق بأيدٍ تجيد تنميق الكلمات، وتُتقن حرق الحقيقة؟
ألم تُدَس القوانين تحت أقدام المصالح، وتُكتم أنفاس المظلومين باسم “السيادة”، بينما يُفكّ القيد عن الظالمين باسم “الشرعية”؟!
أين المنظمات؟ أين دعاة السلام؟ أين شعارات “الحرية” و”العدالة” و”حقوق الإنسان”؟
كفى كذبًا، كفى خداعًا!
لقد تحوّلت تلك الشعارات إلى ستار لجرائم كبرى، وصار من يجهر بالحقّ متَّهَمًا، ومن يمارس الإجرام حرًّا طليقًا!
بل إنّ الاستكبار العالمي، وعلى رأسه الولايات المتحدة، هو الخطر الأكبر على ما تبقّى من روحٍ بشرية على هذا الكوكب.
فثقافة الغرب – الماديّة، الفردانية، الاستهلاكية – لم تفرّغ الإنسان من جوهره فحسب، بل باتت تصدّر هذا الفراغ إلى شعوب الأرض تحت شعار “الحرية”!
فهل أمريكا اليوم إلا كاليغولا العصر؟!
ذاك الطاغية الروماني الذي لم يفرّق بين الفضيلة والرذيلة، ولا بين الجريمة والعدل… أليست سياساتها صورة من ذلك الجنون؟!
بل قل: أليست أمريكا هي فرعون هذا الزمان؟
تضلّل الشعوب باسم “الديمقراطية”، وتنشر الفوضى باسم “التحرير”، وتغزو الأمم باسم “العدالة”، وهي أبعد ما تكون عن العدل والرحمة!
تملك الإعلام، وتُحكم القبضة على السلاح، وتروّج الأكاذيب كأنّها حقائق، وتُسكت الأصوات الحرة بالحصار أو القصف أو الاغتيال.
يا لها من كلمة أُفرغت من معناها!
صارت “الإنسانية” تُستخدم لتبرير الحروب لا لردعها، تُرفع في المحافل لا تُطبّق على الأرض.
كم من صورةٍ رأيناها لطفلٍ باكٍ؟
كم من حلمٍ ابتلعه البحر؟
كم من نداء استغاثةٍ ضاع بين المراوغات السياسية؟!
ألا نخجل؟!
ألا نخجل من صمتنا؟ من خنوعنا؟ من تعايشنا مع الظلم وكأنّه قَدَرٌ لا مفرّ منه؟!
إنّ الإنسانية ليست شعارًا، بل موقفٌ وشهادة…
أن تكون إنسانيًّا، يعني أن تتألّم لألم الآخرين، أن تبكي لبكائهم، أن تمدّ يدك حين تُهدَم العدالة، وأن تصرخ حين يكون الصراخ واجبًا.
وفي المستقبل، حين يطالع الأبناء كتب التاريخ، سيقرأون عن بشريةٍ تطايرت أجسادها إلى السماء، ثم سقطت أرضًا ممزّقة.
سيقرؤون عن أطفالٍ قُتلوا جوعًا وعطشًا، عن مدنٍ أُبيدت فوق ساكنيها، وعن صمتٍ دوليٍّ خانع.
وحينها، سيحمدون الله أنهم لم يُولَدوا في زمنٍ سقطت فيه الإنسانية، واحترقت فيه القيم، وتآمر فيه العالم على المظلومين.
لن أتنازل عن الدفاع عن غزّة،
فذلك واجبٌ شرعيٌّ أمام الله،
وحقٌّ يُمليه الضمير، وفرضٌ تكتبه آهات الشهداء واليتامى والمقهورين.
لكن… ما هو الحل؟ وما هو المخرج؟
إنّه العودة إلى طريق أنبياء الله العظام، فلا هُدى فوق هُداهم، ولا سبيل أعزّ من سبيلهم.
فالذلّ والهوان، وما نراه من العذاب الإلهي في الدنيا والآخرة، ما هو إلا ثمرة الانحراف عن نهجهم، والتكذيب برسالتهم.
أخي القارئ،
أتعلم أن الجزيرة العربية ومصر كانتا مهبط جميع الرسالات السماوية؟
وأن أقوامها لُعنوا وسُلّط عليهم العذاب حين كذّبوا الرسل؟
اليوم، التاريخ يعيد نفسه…
تذكّر قوم نوح، ولوط، وصالح، وعاد، وثمود…
ما هلكوا إلا حين أعرضوا عن النور، وتنكّروا للصوت الإلهي.
فلنُدرك الدرس…
ولنَعُد قبل أن نُبلى بما ابتُلوا به…
ولنُحْيِ أرواحنا من جديد، ونعيد للإنسانية معناها، قبل أن تُدفن إلى الأبد في مقبرة الكلمات الجوفاء.