عبد الباري عطوان : نعم.. القدس ليست للبيع.. وابتزاز ترامب بقطع المساعدات الامريكية عن “السلطة” اكبر هدية للشعب الفلسطيني ونتمنى ان لا يتراجع عنه.. وهذه هي اسبابنا.
إب نيوز 3 يناير
يتضرع الكثير من الفلسطينيين، ونحن منهم، الى الخالق جل وعلا، ان يمضي الرئيس الأمريكي دونالد ترامب قدما في تهديداته ويقطع منحة الـ300 مليون دولار سنويا الى السلطة الوطنية الفلسطينية في رام الله، وان تحذو حذوه الدول الأوروبية المانحة الأخرى، لان هذا يعني انهيار هذه السلطة، والاتفاقات التي جاءت بها (أوسلو) وما تفرع عنها من تنازل عن اكثر من 80 بالمئة من الأراضي الفلسطينية، والاعتراف بالدولة الإسرائيلية.
الرئيس ترامب سار على نهج بعض الحكومات الخليجية مساء امس الثلاثاء عندما “عاير” وتمنن على الشعب الفلسطيني وسلطته، في تغريدة على حسابه في “التويتر” قال فيها “ندفع للفلسطينيين مئات الملايين من الدولارات سنويا، ولا نحصل منهم على أي تقدير او احترام، هم لا يريدون حتى التفاوض على معاهدة سلام مع إسرائيل.. طالما انهم لا يريدون التفاوض على السلام لماذا ينبغي علينا ان نسدد لهم هذه الدفعات الضخمة في المستقبل؟”.
ما يريده الرئيس ترامب من الشعب الفلسطيني، هو نفس ما يريده من الشعوب الخليجية الأخرى، أي انه يطالب الشعوب الخليجية، او بالأحرى حكوماتها، التي تملك مئات المليارات من الأرصدة المالية ان تدفع ثمن حمايتها، ومن الشعب الفلسطيني وسلطته ان تدفع “التنازلات” عن القدس المحتلة والضفة الغربية، وكل الحقوق الشرعية الفلسطينية مقابل 300 مليون دولار سنويا، ما ارخصه من ثمن، وما اوقحه من ابتزاز.
***
هذه هي العقلية التجارية الابتزازية التي يجيدها الرئيس ترامب، ولا يجيد غيرها، الامر كله يتعلق بالسمسرة والعمولات، وليس له أي علاقة بالاخلاق، والقيم، والقوانين الدولية والاعتبارات السياسية، والحد الأدنى من الحقوق المشروعة للآخرين، فقط الرضوخ لاملاءات نتنياهو عبر ادانة جيرالد كوشنر صهر الرئيس.
المساعدات الامريكية للسلطة الفلسطينية، جاءت من اجل “ترويض” الشعب الفلسطيني ورشوته، وتخليه عن كافة اشكال المقاومة للاحتلال، والانشغال بكيفية تحسين ظروفه المعيشية تحته في اطار فقاعة “سلام اقتصادي”، واغراق نخبته الحاكمة في رام الله بالقروض والمنازل، والسيارات الفخمة، وعناصر الرفاهية الأخرى.
الظروف المعيشية للشعب الفلسطيني قبل مجيء السلطة وتوقيع اتفاقات أوسلو كانت افضل كثيرا، ليس لانها اكثر رخاء، وانما ترتكز على قناعة ونظرية “الخبز مع الكرامة”، ولان هذا الشعب فجر انتفاضة حازت على احترام العالم ودعمه، وعرت ممارسات الاحتلال القمعية واللاانسانية، وهددت “الوجود” الإسرائيلي، ولهذا تفتقت العقول الاستعمارية الغربية عن طوق نجاة تمثل في مصيدة اتفاقات أوسلو.
متحدثون باسم السلطة الفلسطينية قالوا انهم لن يخضعوا للابتزاز، وان القدس ليست مطروحة للبيع لا بالذهب ولا بالمليارات، وهذا كلام جميل، ولكن ما هي الخطوات العملية التي ستتخذها السلطة في مواجهة هذين الموقفين، الإسرائيلي الذي تمثل في اصدار تشريع بضم القدس، وعدم التنازل عن مليمتر واحد من أراضيها، وكذلك مستوطنات الضفة الغربية، والامريكي الذي اعترف بالمدينة المقدسة عاصمة لدولة الاحتلال؟
الخطوة الوحيدة التي اتخذتها السلطة هي دعوة المجلس المركزي الفلسطيني للانعقاد الأسبوع المقبل، وأين.. في رام الله، أي تحت حراب الاحتلال، للرد على “ابتزاز″ نتنياهو وترامب معا، ودعوة الناطقين باسمها الى نقل سفاراتهم الى القدس المحتلة، مثلما فعل الدكتور صائب عريقات، وكأن القرار قرارهم، والمدينة المقدسة مفتوحة لهم، أي تفكير قاصر هذا؟
المجلس المركزي الفلسطيني الذي يشكل حلقة الوصل الوسيطة بين المجلس الوطني واللجنة التنفيذية للمنظمة، انتهت صلاحيته منذ عشرين عاما، ويتكون من ممثلي فصائل “انقرضت” وليس لها أي شعبية في الساحة الفلسطينية، باستثناء بضع فصائل مثل “فتح” و”الجبهة الشعبية” ونظيرتها الديمقراطية، اما الأعضاء فنصفهم انتقل الى الرفيق الأعلى، والنصف الثاني ينتظر، وتجاوز مرحلة التقاعد بعقود، والمعارضة شبه معدومة، وان وجدت فغير مرحب بها، ولا صوت يعلو على صوت السلطة، ورئيسها محمود عباس قدس الله سره.
المجلس المركزي اتخذ قرارا قبل عام تقريبا، وفي اجتماع “استعراضي” في المقاطعة برام الله، بوقف التنسيق الأمني مع دولة الاحتلال، وسط تصفيق حاد، وتبادل التهاني بين الأعضاء بعودة “الهيبة” الى منظمة التحرير، وعودة المقاومة للاحتلال بالتالي، وما زال هذا القرار في درج مكتب الرئيس عباس، وبقية القصة معروفة.
***
الشعب الفلسطيني الذي فقد الثقة في السلطة ومؤسساتها وقيادتها، بات يعول حقيقة على الرئيس ترامب وقراراته، لإخراجه من حال “الموت السريري” الذي تعيشها قضيته منذ توقيع اتفاقات أوسلو عام 1993، والتخلص من هذه السلطة التي اذلته، ودجنته، وباعته الوهم طوال السنوات العشرين الماضية.
مرة أخرى نقول اننا نتمنى ان لا يتراجع الرئيس ترامب عن تهديداته، وان يوقف المساعدات “المسمومة” للسلطة، فلعل هذه الخطوة تكون الضربة القاضية للولايات المتحدة ونفوذها في منطقة الشرق الأوسط، وربما العالم الإسلامي بأسره، وبداية مرحلة جديدة تضع الشعب الفلسطيني مجددا على الطريق الصحيح، وتوحده على أرضية المقاومة والكرامة وعزة النفس، تحت قيادة مختلفة قادرة على تحمل المسؤولية التاريخية.