الحريري في الرياض ويَلتَقِي “مُحْتَجزيه” في إطارِ مُصالحِةٍ سياسيّةٍ وماليّة.. هل باتَ في مَوقِع أقوى مِثلما قال الأمير بن سلمان؟ وما هِي فُرَصْ “تَرميم” تيّار المُستقبل الذي يتزعّمه؟ وهل نَحن على أبواب مُصالحة مع “المُتمرِّدين” وحِزب “القُوّات”؟
بعد يَومين فقط من وصول السيد نزار العلولا المُستشار في الدِّيوان المَلكي السعودي إلى بيروت، وتَسليمِه دعوةً رسميّةً لزِيارة المملكة، طارَ السيد سعد الحريري، رئيس الوزراء اللبناني إلى الرياض مُلبّيًا، في أوّل زيارةٍ إلى العاصِمة السعوديّة مُنذ الرابع من تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، حيث جَرى احتجازه وإجباره على قراءة بيان باستقالته عَبر شاشة قناة “العربيّة” السعوديّة، ولم يُغادِرها إلا بعد تدخّلٍ فرنسيٍّ أمريكيّ.
السيد العلولا الذي لا يُغرِّد على شبكة “التويتر” ويلْتزم الصَّمت، ويُفضِّل الابْتعاد عن وسائل الإعلام، قال أن الهَدف الأبرز لزِيارته لبنان على رأس وفد يَضُم وليد البخاري القائِم بالأعمال السعودي السَّابِق، هو تَوجيه الدَّعوة إلى السيد الحريري لزِيارة الرياض كَخُطوة لاستعادة العلاقات مع لبنان.
اللقاءات التي عَقدها المَبعوث السعودي اقْتصرت على حُلفاء السعوديّة في لبنان، مِثل لقاءاته مع ثلاثة رؤوساء وزارات سابقين (تمام سلام، فؤاد السنيورة، نجيب ميقاتي)، وأمين الجميل (الكتائب)، أمّا لقاؤه مع رئيس الجمهوريّة ميشيل عون في قصر بعبدا فلم يَزِد عن ثماني دقائق، وربّما كان اللِّقاء الآخر مع السيد نبيه بري، رئيس مجلس النوّاب، أطول قليلاً، ولكن الطَّابع البروتوكولي كان طاغِيًا في اللقاءين.
المُقرَّبون من الأمير محمد بن سلمان، وليّ العَهد السعودي، الذي سيَستقبل السيد الحريري، بعد استقبال والده له صباح اليَوْمْ، يَقولون أنّه أخطأ في كيفيّة التَّعاطي مع السيد الحريري ومَوضوع استقالته، ويُحاوِل إصلاح هذا الخَطأ بتَرميم العلاقة معه والسَّاحة اللبنانيّة من خِلاله، وإعادة النُّفوذ السعوديّ إليها.
السيد الحريري الذي يَعرِف السعوديّة جيّدًا باعتبارِه مولود فيها، وكَوّن والده رفيق ثَروته من خِلال شَركاتِه في البَلد، التزم الصَّمت بعد عَودته إلى بيروت عبر المَحطّة الفرنسيّة، ولم يَتحدّث مُطلقًا عن تَفاصيل دراما احتجازه، الأمر الذي أحرج مُضيفيه السُّعوديين الحاليين، ودَفعهم لمُحاولة “لملمة” الأزمة وتَطييب خاطِره.
التحرُّك السعودي تُجاه لبنان الذي بَدأ بزيارة السيد العلولا المُفاجِئة، تَزامن مع قُربْ الانتخابات النيابيّة اللبنانيّة التي تَخوضها حركة 14 آذار التي يَتزعّمها السيد الحريري وهي في حالةِ انقسامٍ وتَشرذُم، فحزب “المستقبل” يُعاني من انشقاقاتٍ داخليّة عُنوانه جناح أشرف ريفي، الذي انْحاز للمَوقف السعودي كُلّيًّا أثناء أزمة الحريري، كما أن هُناك شَرْخًا آخر يَتّسع بين الحزب، أي المستقبل، وشَريكه “القوّات اللبنانيّة”، بِزَعامة السيد جعجع، بسبب تَقارُب السيد الحريري مع حِزب التيّار الوَطني الحُر الذي يتزعّمه الرئيس عون.
لا نَعرِف ما إذا كانت زيارة السيد الحريري إلى الرياض ستَنجح في تَرميم هذا التكتُّل وتَجميع صُفوفِه للحِفاظ على مَقاعِده في مجلس النوّاب اللبناني أمْ لا، لكن هُناك من يُؤكِّد في بيروت نَقلاً عن مُقرَّبين من السيد الحريري بأنه سَيمضي قُدمًا في التمسّك بالصِّيغة التي أعادته إلى رئاسة الوزراء، أي التَّحالف مع “التيّار الحُر” تحديدًا، ولن يَغفِر في الوَقت نفسه لأولئك الذين انْشقّوا عنه، وأشْهروا سَيف العَداء له أثناء أزمته، وأرادوا وِراثته حَيًّا.
التحرُّك السعودي على السَّاحةِ اللبنانيّة جاء مُتأخّرًا، أي قبل شَهرين من الانتخابات البرلمانيّة اللبنانيّة، ممّا يعني أن إعادة ترتيب أوراق حُلفاء السعوديّة، ربّما تكون عمليّةً صَعبةً لأن تتويج الحريري مرّةً أُخرى كحليف، أو بوّابة رئيسيّة إلى لبنان، ربّما تُغضِب كثيرين من حُلفاء تيّارِه القُدامى.
في خِطابه بمُناسبة يوم 14 شباط (فبراير) لم يَنطِق السيد الحريري باسْم السعوديّة مُطلقًا، وأكّد استمرار تحالُفه مع الرئيس عون، ولكنّه اشْتكى من شُحْ المال اللازم لكَسب بعض الأصوات، وشَدّد على أنّه لن يتحالَف مع “حزب الله” مُطلقًا، الأمر الذي دفع السيد حسن نصر الله، زعيم الحزب، إلى الرَّد عليه بسُخرية في آخر خِطاباته، بما مَعناه “يا أخي من طَلب التَّحالف معك أساسًا”.
الأمر المُؤكّد أن عَودة السيد الحريري إلى الرياض بعد “واقِعة” نوفمبر سَتُمكّنه من الحُصول على الدَّعم المالي الذي قد يُساعده في خَوض الانتخابات النيابيّة، ولكنّه قطعًا قد يُفقِده الكثير من التَّعاطف الشَّعبي العابِر للأحزاب والطوائِف الذي حَقّقه بسبب سَحْبِه لاستقالته والابْتعاد عن السعوديّة سِياسيًّا.
السَّاحة اللبنانيّة مُعقّدة، وبِحارها مَليئةٌ بالحيتان وكِلاب البَحر السياسيين الشَّرسين، ولا نَعتقد أن السيد الحريري لا يُدرِك هذهِ الحَقيقة، وإذا كان قد بَلَع “إهانة” احْتجازه، فإنّه قد يَكون من الصَّعب عليه العَودة إلى الصِّيغةِ نَفسها التي كانت تَحْكُم علاقته بالسعوديّة قَبلها.. والله أعلم.