عطوان : ضحايا حَرب اليمن تُطارِد الأمير بن سلمان في كُل مَفاصِل زِيارته المَلكيّة لبريطانيا..
إب نيوز ٨ مارس
ضحايا حَرب اليمن تُطارِد الأمير بن سلمان في كُل مَفاصِل زِيارته المَلكيّة لبريطانيا. مَهرجان من الحَملات الدِّعائيّة المُؤيِّدة والمُعارِضة.. والحُكومة البريطانيّة تُقدِّم الصَّفقات التجاريّة على المَبادِئ والحُريّات.. ولُغَة الأرقام لا تَكذِب.. والاسْتقبال الرَّسمي “الباذِخ” غَير مَسبوق
March 7, 2018
تعيش مدينة لندن هذهِ الأيّام مَهرجانًا سِياسيًّا غير مَسبوق تتصادم فيه كُل الألوان السياسيّة، والسَّبب زِيارة وليّ العَهد السعودي التي بَدأت اليَوْمْ الأربعاء، وتَستمر لثلاثَة أيّام، سَتكون حافِلةً باللِّقاءات والمُباحثات والجَدل في الوَقتِ نَفسِه.
حافِلات ضَخمة، وسيّارات تاكسي سَوداء، تَجوب الشَّوارِع تَحمِل صُور وليّ العَهد الشَّاب، ولافِتات على جَوانِبها تقول “مرحبًا بِك يا وليّ العَهد السعودي في لندن”، وأُخرى تَقول “أهلا بالرَّجل الذي يأتِي بالتَّغيير إلى السعوديٍة”، في المُقابِل هُناك شاحِنة يتيمة تَدور في مَيدان أمام البَرلمان تَحمِل لافِتةً ضَخمة تقول “وليّ العهد السعوديّ مُجرِم حرب”، ممّا يُؤكِّد أن الحَرب الدِّعائيّة قد تَكون جَرى حَسْمها لِمَن يَمْلِك مالاً أكثر.
إنّها “زيارة دولة” فالأمير بن سلمان يَحظى باستقبالِ كِبار المُلوك، وليس اسْتقبال أولياء العُهود، أو الرؤساء ونُوّابِهم في الدُّول الغنيّة والفَقيرة على حَدٍّ سَواء، وحتى مُلوك السعوديّة الذين زاروا العاصِمة البريطانيّة في السَّابِق، مثل الملك فهد بن عبد العزيز، أو خلفه وشقيقه الملك عبد الله، لم يَحظوا بمِثل هذا الاستقبال، وهذا الاهتمام السياسي والاقتصادي الذي يُرافِقه، نَقولها نحن الذين نَعيش في بريطانيا مُنذ 40 عامًا.
لإبراز حَجم الحَفاوة المُبالغ فيه، بَدأ الأمير الزَّائِر زِيارته بغَداء على مائِدة الملكة إليزابيث الثانية، وانْطلق بعدها للاجتماع بالسيدة تيريزا ماي، رئيسة الوزراء في مَقرّها لبَحث القضايا السياسيّة والاقتصاديّة، وسَيكون الخِتام حَفل عشاء سيُقيمه الأمير تشارلز، وليّ العَهد البريطاني في قَصره بحُضور نَجلِه ويليم مَلِك بريطانيا القادِم.
الحَرب في اليمن، وأعمال القَتل التي يَرتكِبها التَّحالف العَربي بقِيادة السعوديّة، كانت المُهيمِن والمُنغِّص لهذه الزِّيارة، وكانت صُور الدَّمار والأطفال القَتلى تُطارِد الأمير الزَّائِر في كُل مَكان يَحِل فيه، في إطارِ حَملةٍ مُسبَقة نَظّمها المُعارضون للزِّيارة وللمملكة، تَقِف خَلفها حُكومات ومُنظَّمات.
جميع المُنظّمات الخيريّة والإنسانيّة توحّدت في حملة مُظاهرات للتَّنديد بِها والضَّيف والمُضيف في الوَقت نَفسه، فمُنظَّمة “وقف الحرب” التي ذاعَ صيتُها أيّام الحَرب على العِراق نظّمت مُظاهرةً ضخمةً أمام مقر مجلس الوزراء حيث يُجري وليّ العَهد السعودي مُباحثاتِه الرسميّة مع السيدة ماي، ورَفعت صُور الضحايا في اليمن، ومُنظّمة “أنقذوا الأطفال” رَفعت تِمثالاً لطِفل يَمني يرفع عينيه إلى السَّماء، أثناء مُظاهرة لها أمام البَرلمان، للَفت الانْتباه إلى ضحايا غارات الطَّائِرات السعوديّة والإماراتيّة.
السيدة إيميلي تورنبري، وزيرة خارجيّة الظِّل في بريطانيا قالت في حديث لمحطّة “بي بي سي” أن الطَّائِرات السعوديّة تَشُن غاراتٍ على اليَمن كل 93 دقيقة، وأن طِفلاً يمنيًّا يموت كل 10 دقائق، وعبّرت عن شُكوكِها في إصلاحات الأمير بن سلمان، أمّا رئيسها جيرمي كوربن، زعيم حزب العمل، فقَد طالب حُكومة بِلاده بوَقف بَيع الأسلحة إلى السعوديّة احتجاجًا.
أثر مَحدود سيكون لجَميع هذهِ الاحتجاجات لأن حُكومة المُحافظين بزَعامة السيدة ماي لن تُعيرها الكَثير من الانتباه، وسَتمضي قُدمًا في استغلال هذهِ الزِّيارة الملكيّة من قِبل وليّ عهد الدَّولة الأغنى في الشرق الأوسط للحُصول على أكبر قَدرٍ من المِليارات والمَشاريع الاقتصاديّة، ولهذا وَصف بوريس جونسون، وزير خارجيّتها، وليّ العهد السعودي بأنّه رجل التَّسامح والتَّغيير، وقال إن زيارته ستَنقُل العلاقات إلى مَرحلة جَديدة من الشَّراكة الاستراتيجيّة بين البَلدين، ونحن نتفهّم حَق السعوديّة في الدِّفاع عن نَفسِها.
تصريحات الوزير جونسون هذه تُشير إلى تأسيس “مجلس الشَّراكة الاستراتيجيّة السعودي البريطاني الذي جَرى الاتّفاق على تأسيسه لبَحث القضايا الدوليّة والاقتصاديّة، وهو مجلس سيَجري تعزيزه برَصد مبلغ 100 مليار دولار جنيه إسترليني على شكل استثمارات سُعوديّة في بريطانيا على مَدى عَشر سنوات.
المُتحدّثون باسم السيدة ماي يقولون أنها ستبحث مع الضيف السعودي ملف حُقوق الإنسان في اليمن، وستُمارس ضُغوطًا لتَخفيف مُعاناة اليَمنيين والحِصار المَفروض عليهم، ولكن هذا الكلام مُجرَّد ذَرْ الرَّماد في العُيون، فرئيسة وزراء بريطانيا تُقدِّم المصالِح التجاريّة على مَبادِئ حُقوق الإنسان، خاصَّةً في هذا الظَّرف الذي تَبحث فيه عن أسواقٍ خارجيّة تُعوِّض خُروج بريطانيا من الاتّحاد الأوروبي العام المُقبِل، حيث تذهب إلى دُوَلِه نِصف الصَّادرات البريطانيّة.
بريطانيا لن تتّخذ مواقِف جِديّة مِثل نَظيرتها الألمانيٍة وتُوقِف بيع صفقات أسلحة وذخائِر إلى السعوديّة احتجاجًا على قَصف اليمن، كما أنّها لن تَستمِع إلى مطالِب رئيس المُعارضة جيرمي كوربن في هذا الخُصوص، فالمُهم هو المال والصَّفقات التجاريّة وخَلق وظائِف للعاطِلين عن العَمل في بريطانيا، ولعلَّ بيان المَجلس الإسلامي في بريطانيا الذي طالب رئيسة وزراء بلاده “بعدم الانشغال بالإصلاحات “المُصطَنعة” و”الشكليّة” التي تُشكِّل قِناعًا يُخفي غِياب الديمقراطيٍة واعتقال النُّشطاء في السعوديّة” يُلخِّص المَزاج الآخر في بريطانيا، وهو الغالِب تُجاه هذهِ الزِّيارة.
الأمير محمد بن سلمان أدخل إصلاحاتٍ اجتماعيٍة واقتصاديّة جريئة وغير مسبوقة ولافِتة للنَّظر، وستَدخل بِلاده عصر الحَداثة دون أدنى شَك، ولكنّها تَظل “وقتيٍة” وإن أرضت الشباب السعودي الذي يُشكِّل 70 بالمِئة من عدد السُّكّان لأن بعضها تَصدّى للفَساد على مُستوى القِمّة، وما لم تتوازى هذهِ الإصلاحات بأُخرى سياسيّة سيتبخّر مُعظَم أثرها لأن هؤلاء الشباب، وغيرهم، لن يَكتفوا بالتَّرفيه والاختلاط، ورَفع الكثير من القُيود الدينيّة المُتزمّتة، وسيُطالِبون بالمُشاركة السياسيّة والمَزيد من حُقوق الإنسان والشفافيّة لاحِقًا.
الأمير بن سلمان وصف خَطواتِه التغييريٍة هذهِ باتّباعه نظريّة “الصَّدمة” لهَزْ مُجتمعٍ تقليديٍّ مُتكلِّس، يعيش في عَصر آخر، وهو مُحِق في هذا التَّوصيف، ولكن المُشكلة إن أثَر الصَّدمات يَظل قصير العُمر وسُرعان ما يَتبخّر إذا لم يتوازى بإجْراءاتٍ إصلاحيّة شامِلة تُحافِظ على ما تم إنجازه أوّلاً، وتُؤسِّس لدَولة مُؤسّسات عَصريّة حَديثة.
لا شَك أن الأمير بن سلمان ألْقى بصَخرةٍ كبيرة في بِركة آسنة وراكِدة، أحدثت ارتدادات كثيرة، ولكن إلقاء الحِجارة والصُّخور وَحده لا يَكفي، ولا نعتقد أنه لا يَعرِف، ومُستشاروه أيضًا هذهِ الحَقيقة، وهو على أي حال ما زال في بِداية الطَّريق.
المَهرجان اللَّندني سيَختفي بِمُجرَّد انتهاء الزيارة، وسَتعود الشَّاحِنات ولافِتاتها وصُورها إلى مخازِنها، وسَتطير الطُّيور بأرزاقِها، لكن الواقِع الذي تَعيشه المملكة، والتحدِّيات التي تُواجهها، بأشكالِها كافّة، ستَستَمِر، وأبْرزها كابوس حَرب اليمن الذي يبدو لا نَهاية له، ومَفتوحًا على جَميع الاحتمالات.
“رأي اليوم”