“توبة شهيد”

 

 

إب نيوز ٣٠ سبتمبر

سكينة المناري

في منتصف الليل والناس في هدوء والظلام الحالك يغطي أستار المدينة ، تقدم أحدهم نحو باب والد أحمد وطرقة طرقتين بهدوء ، سمعتها والدة أحمد كالخيال وتأنـت قليلاً تنصت السمع ،
فعادت طرقةً ثالثة صوتها أكبر ، نهضت مفزوعة تيقظ زوجها؛ ألا تسمع !! إنهض هيا هيا إنهض !!
نهض وقد شاح على وجهه الخوف “مابكِ مالذي يجري”! ؟
ـ إن أحداً يطرق الباب. قالت وقد امتلأت عيناها رعباً لربما إنهم أولئك اللذين ذهب معهم أحمد وقد أتوا به مقتولاً فهم ما إن يتخلصوا من مهمتة سيقتلونه حتماً !!
ـ حسناً لا تقلقي ليس وقت هذا الكلام دعينا نذهب لنرى من يكون ! نهض يتحزم ثيابه وبحث يفتّش عن بندقيته

أين بندقيتي ؟
ـ هناك وأشارت بيدها إلى وراء باب الغرفة !!
أين؟؟ لم يعد يراها من توجسه وتلبّكه
هناك خلف الباب
ــ حسناً ها هي !
أخذ البندقية وفتح أمانها وخرج ، وقد قبض بندقيته قبضة شديدة وبدأ يمشي صالة البيت بهمس وزوجته تلحق وراءه بهدوء وهي تفرك يديها وتمسك على قلبها وتتمتم بدعاء ٍ خافت

إلى أن وصلا باب الصالة الخارجي فوقفا يرهفا السمع ربما قد ذهب قبل أن نعرف من يكون !!
فعادت طرقة رابعة بصوت قوي جعلت الزوجه تنكز من مكانها وتسحب بزوجها إلى الوراء وقالت: ماذا لو كانوا أولئك الدواعش يرموا إبننا بين أيدينا مقتولاً!
ـــ: لا تقلقي لن يكون إلا خيراً
تماسك وأحكم قبضته على البندقية مرةً أخرى وتقدم خطوةً خطوة نحو الباب الخارجي إلى أن وصل ،وزوجتة ترقب خائفة
من يطرق الباب؟
ـــ بصوت منكسر أنا لقد عدت
خالج والد أحمد أن هذا صوت أحمد لكنه في نفس الوقت يجب عليه أن يأخذ حذره ويتأكد من ألا يكون أحداً من اللذين قالت عنهم زوجته
كرر والد أحمد السؤال ، من أنت وماتريد في هذا الوقت ؟
_إنه أنا أحمد لقد عدت من المعسكر
إرتخت أعصاب والد أحمد وتنفس الصعداء وأخرج زفرة عميقة وفتح الباب فرأى أحمد أمامه ومد رأسه إلى وراء الباب ينظر هل هناك أحد آخر، ولم يكن هناك أحد.
،
_ سمعت صوت إبنها فكاد قلبها يطير فرحاً وسروراً وبضع لحظات رأته أمامها ..فنفجرت بالبكاء واحتضنته لم أكد أصدق أنك مازلت حياً لم أصدق أنهم لم يقتلوك ، مازلت تقبّله وتتفحصه قد أصبح نحيلاً مصفراً ولم تلاحظ جرحه في رجله اليمني إلا حين مشى وهو يتعكز وقد إشتد ألمه من صقيع البرد

دخلا البيت وبدأ أحمديخلع جعبته وبندقية فقالت والدته بستعجال، هل ستعود مرة أخرى لا لن تعود لم نعد نريد شيئاً فقلقنا عليك يكاد أن يجعلنا لا ننام ليلنا ولا أن نعيش نهارنا
إستمر أحمد يطرح أدواته صامتاً لا يجيب

فعاودت القول هل أحضر لك عشاء ؟
لا لا أريد
قال والده دعيه يستريح إنه متعب .
جلسا والديه يحدثانه ويسألونه عن كيفية مجيئه وكيف كانت أيامه هناك ، فتارةً يجيب وتارةً أخرى يصمت وقد إعتلت على وجهه سحابة سوداء من الحزن والألم لم يعرفو مصدرها
قال أحمد : هل لكما أن تتركاني لوحدي!!
قام الوالدين والأم تتقاطر من عينيها دموع غزار قد شعرت أن إبنها قد ألم به حزنً عظيم

قالت : لقد أخطأنا خطأً فادحاً وارتكبنا ذنباً لا يغتفر حين جعلناه يذهب ليقاتل مع السعوديه والإمارات من أجل المال وقسما أننا لم نهنأ به يوما .

كان هناك أمراً أليما ً يخفيه أحمد لم يخبر أحد حتى صديقه المقرب منه ،والذي يذهب إليه يومياً في بداية الليل يحدثه عن آلامه وأوجاعه ،وما إن
ينهي حديثه وفضفضته، يشعر أن الطمأنينة تنساب في روحه المنكسرة والراحة تغمر جوانحه ، فجميع ماحوله يساعده على ذلك فسَكن صديقة والمنازل المجاورة له،يتنسم من أجوائه وزوايها روحانية عجيبة يحوطها الأزهار والورود ،وتحفها ملائكة يتباهون بهؤلاء القوم ،

،أحبّ أحمد سكان ذلك المكان فالطيب والأخلاق الرفيعة والزهد والتراحم والتآخي بارزاً في صفاتهم رغم إختلاف مناطقهم المنتمين اليها،
، حُبّ أحمد لذلك المكان لايوصف ويتمنى لو أن يسكن في قادم الأيام هناك
يغادر أحمد وهو يتمنى
لو أن يقضي طول ليلة مع صديقه الذي لم يخبره بعد أمراً ضاق صدره بكتمانه.

يعود
إلى البيت يكمل ليله في التهجّد والسجود باكياًً خاشعاً بين يدي ربه ليفرج كربته وماحل به.

وذات ليلة كان جوها ممطر والبرق يلمع والسحاب تتزاحم طبقاتها السوادء في السماء ….تحزّم أحمد ولبس ثياب لم يلبسها منذ وقت طويل ذهاباً إلى المكان الذي يسكنه صديقه الذي يذهب إليه يومياً ،ولكن هذه المره قرر أن يبوح بالأمر الذي أثقل صدره كتماناً وألماً ،

ذهب وقلبه يخفق ً حزناً ، مشى بخطواته البطيئة التي تنم عن عميق الحزن الذي يحمله ، دخل بوابة تلك المدينة التي يقطنها أحمد وألقى السلام والتحية على جميع سكانها، ثم دخل إلى صديقه القى عليه التحيه بصوت شجي ووجه شاحب ،ثم

جلس بجواره ،يحدثه،، ها أنا قد جئتك ي صديقي أقول لك ما ألم بي من فاجعةٍ عظمى وحزن عميق ضاقت الأرض بي وأنا اكتمهُ في سريرة قلبي وأدعو الله أن يغفر لي ..

لقد كان لي صديق

منذ طفولتنا درسنا معاً ونشأنا معا ، وفارقت السنين بيننا وتباعدت الأيام ولم يبقى بيننا سوى اتصالات هاتفية ،،ومنذ فترة طويلة انقطع تواصلنا تماماً ولم يعد يعرف كلانا عن الآخر شيئاً ، وحين هجم المتكالبون على اليمن ذهب هو ليقاتل عني وعن الأرض والكرامة وعن شعبه وبلده، بينما أنا ذهبت أقاتله وأقاتل أبناء وطني وأساعد عدوٍ غازٍ من أجل دراهم معدودة وقد دجننونا بأن من نقاتلهم كفرة مجوس لا يقرؤون قرآن ولا يعبدون إله ..ولكننا كنا نقاتل عظماء .أتقياء ينتصروا بنصر الله ويأيدهم بجنده من عنده.

فحين كنا نزحف عشرات الآلاف إلى موقعهم ، نتلقى من بأسهم وقوتهم ما يفوق عددنا وعتادنا

فنعود مهزومين أذلاء ،وفي ذات يوم هجموا علينا وفرّ من كان في معسكرنا كالذئاب وبقيت أنا أقاوم حتى جرحت وبقيت أصارع الموت لمدة يومين لأنهم تركوني وحيداً ، ولعل الله أراد في هذا أن أسلك طريق الحق
فتسللت إلى موقعهم جريحاً ،والخوف من بطشهم وشدة بأسهم يعتريني ،فقيادتنا دائماً ماكانوا يوصونا بأن لانستسلم لهم لأنهم يعذبون الأسرى ويعدموهم بطرق بشعة إلا أني لم أستطع أبقى أصارع الألم ،، فاخذوني وأكرموني وداووني وأحسنوا إلي كأني واحد منهم،

كنت أسمع أنيناً وأرهف سمعي إلى أن تجرأت أسأل أحدهم هل هناك أحد مصاب ؟؟
فأجابني ، نعم لقد جرح أحد المجاهدين البارحة أثناء الهجوم ولم يخبرني أن هذا الجريح هو قائدهم
أحسست قلبي يكاد يخرج من بين ظلوعي ..ماذا سيفعلون بي ، إنه أنا من أصاب هذا الجريح إنه أنا من أطلق النار في وجيههم البارحة

لكنهم لم يفعلوا بي شيئاً بل أخذوني للعلاج وتلقيت أحسن الرعاية والمعاملة، عرفت أن هؤلاء هم أهل الحق وأنهم هم أؤلياء الله ، فأخبرتهم أني أريد أن استقي من ثقافتهم العظيمة ولو الشيء القليل ، فلم يمانعوا وأخذوني دورة ثقافية ، عدت إلى الحياة إنسانا آخر ،عرفت لما خلقت ومن هو خالقي . و تحسرت على ما فاتني من عمري أحسست أني لم أعرف الله طوال حياتي الماضية ، عرفت لماذا جئنا لهذه الدنيا وماهي مسؤوليتنا

في كل تلك الفترة لم أنسَ ذلك الجريح وفي كل صلاتي أدعوا الله أن يشفيه وأن يغفر لي جرمي ، سألتهم عليه فأخبروني أنه تم أخذه للمشفى وفي أثناء طريقهم قصفت الطائرة فأصيب بجروح بليغه وهو الآن في المشفى بالعناية
عزمت الذهاب على زيارته ليغفر لي فما هو الان عليه هو بسببي ، عبرت طريق المشفى وأنا أكابد الألم والحسرة، رجوتهم أن يسمحوا لي بالدخول أتحدث إليه سريعاً وإن كان قد لا يسمعني لكن ليهدأ روعي ويرتاح ضميري ، إلا أن ذلك لم يُسمح لي لأن حالته الصحية سيئة جدا وهذا ممنوع ، بعد أن يأست بالحديث إليه رجوتهم فقط أن يسمحوا لي بالنظر إليه ، فسمحوا لي بالدخول لأنظر من خلف زجاج بوابة غرفة العناية، دخلت وأزحت بصري إلى ذالك الجريح الملقى على السرير ، دققت النظر لربما عيني مخطئة عدت أدقق النظر مرة أخرى ، فصعقت بداخلي صعقة مدوية ورأيت الكون غارقا بالظلام في حمرة الشمس،

وهنا طرح أحمد
رأسه بحضن صديقه ثم أخذت دموعه تنحدر من جفنيه يبكي بكاءً مرّا ،
ويقول إلهي انزل عليا عذاباً يمزق يدي هاتين فقد قتلت بهما رفيق دربي ،الهي انزل عليا من البلاء مايغفر لي خطيئتي ،إلهي ….إلهي……إلهي ….الحقني بصديقي وخذ إليك روحي إلهي …إلهي….

.ظلت دموعه تتساقط تبلل التراب وظل يبكي بشدةّ إلى ماشاء الله أن يفعل ،و صديقه لم يواسية أو يجيبه بكلمة واحده ، فقد غلبه نومُ أبدي وهو الآن تحت الثرى جسداً وفي السماء روحاناً ،،
قد بزغت خيوط الفجر وأحمد مازال على ضريح شهيده، أدرك أن الناس سيعرفوا مكانه ، قبّل ضريح الشهيد الذي يسكن في روضة من رياض الجنة
وكفكف دموعه مودعاً لصديقه الشهيد والشهداء اللذين بجواره

ــ لقد عشقت هذه الروضة وأصبحت متنفس ليلي في كل يوم واصبح ضريحك يا صديقي هو المؤنس لي ،تاقت روحي لأسكن هنابجوارك فهل ستستقبلني ياصديقي!!
سأذهب لأعود إليك فهل ستسعد بقدومي !!
،، سأذهب يا صديقي أكفر عن خطيئتي لألقاك سأذهب وأحظى بماحظيت انت بإذن الله

،نهض وحرف ببصره نحو الأضرحه الأخرى قائلاً سأذهب لآتي إليكم حيث أنتم في مقركم الأبدي ، سأذهب لأعود إليكم لأعيش معكم أيها الشهداء وأحيا معكم الحياة الأخرى سوياً.

عاد أحمد يودعّ أهله وأقربائه وفي اليوم التالي تحزّم بندقيته وجعبته منطلقاً حيث مأوى الصناديد وموقع الأبطال إلى جبهات الشرف والكرامة ، مجاهداً مقدام ينكل بأعداء الله ويسطر ملاحم أسطورية .. ، حين كانت يتصل بوالديه وهو في الجبهه يرجوهم أن يدعوا له بالشهادة ويحثهم باالسير على خطاه وعلى نهج آل البيت والتمسك بالمسيرة القرآنيه، وماهي إلا 6 أشهر من منذ ذهابه وقد تصدر البطولات ونال شرف الجهاد في سبيل الله ، عاد أحمد متوسم بوسام الفوز الأعظم شهيداً يُوارى الثرى بجوار صديقه الذي سبقه ، تستقبله ملائكة السماء مستبشراً فرحاً بما أعده الله له من نعيم وجنات عرضها السموات والأرض.

You might also like