عطوان : لماذا هذه الهجمة التطبيعية المهينة من ثلاث دول خليجية نحو الحكومة الاسرائيلية الاكثر دموية وعنصرية؟
إب نيوز ٢٧ اكتوبر
عبدالباري عطوان :
لماذا هذه الهجمة التطبيعية المهينة من ثلاث دول خليجية نحو الحكومة الاسرائيلية الاكثر دموية وعنصرية؟ وما هي العاصمة الثانية التي ستفرش السجاد الاحمر لنتنياهو بعد مسقط؟
ثلاث ضربات تطبيعية موجعة على رأس ما تبقى من الكرامة العربية وقعت في الايام الثلاثة الماضية، الاولى تمثلت بمشاركة وفد اسرائيلي في دورة رياضة بدولة قطر، والثانية ذهاب وفد رياضي آخر الى امارة ابوظبي بترأس وزيرة الثقافة الاسرائيلية ميري ريغيف الاكثر عنصرية واحتقارا للعرب، اما الضربة الاكبر، والاكثر ايلاما، فتمثلت في زيارة رسمية لبنيامين نتنياهو، رئيس وزراء دولة الاحتلال، الى سلطنة عمان حظى خلالها، والوفد المرافق له، باستقبال حافل، ولقاء مع السلطان قابوس.
انها هجمة تطبيعية منسقة، بضغوط امريكية، ليس لها علاقة مطلقا بالسلام الفلسطيني الاسرائيلي، وانما السلام “المجاني” بين اسرائيل والحكومات العربية، تمهيدا لفرض ما تبقى من بنود لصفقة القرن التي تعني حرفيا استغلال حالة الانهيار الرسمي العربي لتصفية القضية الفلسطينية، وانهاء الصرع العربي الاسرائيلي، والاعتراف باسرائيل كدولة شرق اوسطية “شقيقة”.
انها حلقة ربما تكون الاهم في مخطط مدروس يفسر الاسباب التي ادت الى تدمير العراق، ثم سورية، ثم ليبيا، وبعدها اليمن، وتجويع مصر، فبدون تدمير هذه الدولة مسبقا، تحت ذرائع متعددة وكاذبة، لا يمكن ان يمر هذا المخطط، ومن المستحيل ان نرى تبعاته التطبيعية المؤلة هذه.
***
عندما افتتحت كل من قطر وسلطنة عما مكاتب تجارية في عاصمتيهما عام 1996، واستقبلتا مسؤولين اسرائيليين مثل اسحق رابين (عام 1994 في مسقط)، وشمعون بيريس (في مسقط والدوحة عام 1996)، قالتا ان هذه الخطوة تأتي في اطار تشجيع عملية السلام بين الفلسطينيين والاسرائيليين، وتوفير الاجواء الملائمة للمفاوضات، خاصة ان منظمة التحرير الفلسطينية وقعت اتفاق اوسلو (سبتمبر عام 1993)، وتلتها الاردن بتوقيع معاهدة وادي عربة.
من المفارقة ان سلطنة عمان اتخذت موقفا لافتا عندما اغلقت المكتب التجاري الاسرائيلي في اكتوبر (تشرين الاول) عام 2000، اي قبل 18 عاما، وقال بيان وزارة الخارجية العمانية في حينها، (12 اكتوبر عام 2000) “اغلقنا المكتب التجاري الاسرائيلي انطلاقا من حرصنا على دعم القضية الفلسطينية، واستمرارا لنهجنا الداعم للحقوق الثابتة والمشروعة للشعب الفلسطيني، واضاف بيان الخارجية العمانية “ان السلام العادل والشامل سيظل موضع اهتمام السلطنة، ولكن بالمعايير التي تنصر المظلوم، وتصون المقدسات، وتعيد الحقوق الى اصحابها”، والسؤال هو عما تغير الآن؟
سلطنة عمان ودولة قطر اتخذا خطوة اغلاق المكتبين التجاريين الاسرائيليين احتجاجا على الاجتياح الاسرائيلي لمناطق السلطة الفلسطينية واقدام قوات الامن الاسرائيلية على سفك دماء الفلسطينيين بطريقة وحشية، وتاتي موجة التطبيع الرسمية الخليجية في وقت تمارس فيه القوات الاسرائيلية اساليب القتل نفسها، والاكثر اجراما، ففي يوم وصول نتنياهو وزوجته ورئيس الموساد الى مسقط قتلت ستة فلسطينيين عزل في قطاع غزة، وهناك مليونا عربي ومسلم على حافة الموت جوعا ومرضا فيه حاليا.
لا توجد مبادرة سلام حتى تعمل الدول الثلاث: سلطنة عمان وقطر والامارات، على دعمها من خلال استقبال وفود اسرائيلية، ولم يتم احترام المعايير التي قالت حكومات هذه الدول انها تصر عليها من حيث نصرة المظلوم، وصون المقدسات، وعودة الحقوق الى اصحابها، فاسرائيل هوّدت القدس، والرئيس دونالد ترامب اعترف بها عاصمة ابدية لليهود في انحاء العالم، وجيسون غرينبلات، الذي سيصل الى الارض المحتلة بعد اسبوع لاعلان “صفقة القرن” وبنودها سيحمل معه نعش القضية الفلسطينية وسيحفر قبر لدفنها في رام الله من خلال تشريع الاستيطان وتكريس السلام الاقتصادي (رشاوى مالية)، وشطب حق العودة نهائيا.
السيد يوسف بن علوي، وزير الخارجية العماني، قال امس صراحة ان زيارة نتنياهو التي سبقتها زيارة للرئيس محمود عباس لمسقط، جاءت في الاطار الثنائي، وبطلب منهما، واضاف “لسنا وسطاء.. والدور الامريكي هو الرئيسي، واسرائيل دولة في منطقة الشرق الاوسط”، هذا الكلام يوحي بما هو اكثر من زيارة عابرة، ولا نستبعد ان يعود نتنياهو لافتتاح سفارة لاسرائيل في مسقط في الايام القليلة المقبلة، ومن غير المستبعد افتتاح سفارات اخرى في الدوحة وابو ظبي والمنامة، وربما الرياض ايضا، فالحديث عن “علاقات ثنائية” طبيعية.
ملايين العرب احبوا سلطنة عمان ونحن من بينهم، لانها نأت بنفسها عن الكثير من الحروب والمخططات التدميرية للمنطقة، خاصة حربي اليمن وسورية، وقبلهما العراق، وحرصت على اقامة علاقات متوازنة مع ايران، ولم تنجرف الى مشاريع الابتزاز والمواجهة الامريكية ضد طهران، ويصعب علينا ان نفهم الاسباب التي دفعت قيادتها للتضحية بهذا الرصيد الضخم من المحبة والاحترام باستقبال مجرم حرب مثل بنيامين نتنياهو، وفي هذا التوقيت الذي تقف فيه القضية الفلسطينية امام مقصلة التصفية، وشعبها يواجه الحصار واعمال القتل البشعة؟
توقعنا ان يذهب نتنياهو الى الرياض في زيارته الاولى لعاصمة عربية، خاصة بحكم التقارب السري معها، ولهذا جاءت صدمتنا كبيرة، وان كنا نعتقد ان هذه الزيارة مجرد مقدمة لزيارات اخرى علنية، وفتح سفارات، تبادل مصالح، وتنسيق امني شامل، ربما ضد الفلسطينيين وكل من يقف في خندق المقاومة، ويتنبى ثقافتها، وكل ما يتفرع عنها من قيم العدالة والكرامة، فمسيرة التطبيع تبدأ بالاطراف، ثم تزحف الى المراكز الاساسية، وهذا ما يفسر التركيز مع موريتانيا المغرب سابقا.
***
لا نتردد لحظة في ادانة ورفض كل اشكال التطبيع هذه، ونلوم السلطة الفلسطينية التي كانت اول المطبعين وفاتحة الباب على مصراعيه امام المطبعين قبل ان نلومهم، وليكن واضحا ان هذه السلطة لا تمثل الشعب الفلسطيني، ولا تحظى مواقفها في التنسيق مع الاحتلال والاعتراف بأي دعم، ومبارة شعبيه، والشعب الفلسطيني لن يستسلم مطلقا، ولن يفرط في حقوقه حتى لو فرط بها بعض الاشقاء.
نأسف ان يهرول الاشقاء، او بعضهم، خاصة في منطقة الخليج العربي، نحو نتنياهو وحكومته الاكثر فاشية وعنصرية في تاريخ المنطقة في وقت تواجه فيه رفضا دوليا بسبب جرائم حربها، ونجزم بأن شعبها العربي، وفي دول الخليج، لن يقبل مطلقا هذا التطبيع، وسيقاومه، مثلما قاومه الاشقاء في مصر، وحاربه الاشقاء في لبنان وسورية والعراق والمغرب، والصومال، والسودان وليبيا، والجزائر واليمن الجريح، وكل الدول العربية الاخرى، والقائمة طويلة.
سنظل في هذه الصحيفة ترفض التطبيع مع كيان اسرائيلي ملطخة ايادي قادته بدماء الابرياء، يحاول طمس الهويتين العربية والاسلامية للمقدسات من خلال اعمال التهويد، وسنقف دائما في خندق العدالة والشرف والكرامة والسلام الحقيق الذي اقرته كل الشرائع الالهية.
لا نستطيع منع خطواتكم التطبيعية فهذا زمانكم.. ولكننا نستطيع ان نقاومها ولو بالكلمة، وهذا اضعف الايمان، ولن نستسلم مطلقا لاننا على ثقة بأن عمر الباطل قصير، وقد يأتي الخير من باطن الشر، وثقتنا في هذه الامة وعقيدتها راسخة، متجذرة في عمق هذه الارض الطاهرة الطيبة المعطاءة.. والايام بيننا.