كاتب تونسي : اليمن هدهد يطير.. حدود الحكمة والجنون .
يا غوثنا كلما ضاقتْ بنا الحِيَلُ
صلّى وصلّى وصلّى الله تزكيةً
عليكَ والآل ما طابَت بِكَ العِلَلُ
راجَ بعد ثورةِ إيران وصفٌ للخميني وجماعته في الأوساط الإعْـلَامية الغربية.. كان حديثُ وقتِها عن “مجانين الله”.
تذكّرت الوصف وأنا أفكّك مشهدَ المظاهرات الضخمة التي شهدتها مدن اليمن للاحتفال بالمولد النبوي.
بدت لي هذه المظاهرات أبلغَ في الاحتفال بميلاد نبي قال فيه سادةُ قومه إنه مجنون.
قلت في نفسي إذَا كان للإيرانيين جنونٌ، فالجنون الجنون أَوْ الجنون المكتمل الجذري يمني.
إيرانُ بلدٌ ضخمٌ والأَفْكَار الثوريةُ اختمرت بين الإيرانيين عقوداً طويلةً وراكم الإيرانيون وعياً وطنياً رشّحهم للتحدي والصبر والمكابدة.
سياقُ اليمن آخرُ ومختلفٌ. أنصارُ الله بدايةً جماعةٌ محدودةُ الانتشار الجغرافي والعدد والعُدَّة، واليمنُ فقيرٌ ومحاصَرٌ، وكان عبرَ تأريخه الطويل جاذباً للطامعين.
ما يأتيه اليمنيون من المقامرة، أما ما أتاه الإيرانيون فمغامرة والمقامرة أعمق جنوناً وأبعد. هذا يأخُذُنا إلى التفكير في العلاقة بين الدين والجنون وبين السياسة والجنون وبين التأريخ والجنون.
درس الغربيون الجنونَ وأبلوا فيه مبحثاً علمياً أحسنَ البلاء.
يحضر إلى الفلسفة والأدب والفنّ ومدارس النّقد ومناهج البحث والمعرفة حضوراً وازناً ولافتاً.
بعضُ بحثهم يربُطُه بقادح الذكاء والعبقرية ويقرّ أنه محرّك تأريخ واستدعت التحوّلات الذهنية والفكرية والسياسيّة عندهم أقداراً معتبرة منه. في النهاية يستدعي كلّ خروج من النّسق المتوارث بعضَ جنون وفي بعض الأحيان، وعندما يتكلّس النّسقُ تكون حاجةٌ إلى كلّ الجنون لا إلى بعضه القليل. تكون حاجةٌ إلى جنون مجنون أَوْ إلى جنون هو تجلّي جموح لا يقفُ عند حدود.
ماذا تقولُ الصّرخة التي يردّدها اليمنيون؟ ماذا تقول ضمناً بزمن طغيان القوّة وفتنة التقنية؟ ليست الصّرخة إلا إعلان جنون. بيان للناس خلاصته أنّ بشريين يخرجون من دين القوّة ويكفُرُون به فيواجهون الهَمَر بالولّاعة وينافسون المدجّجين بالقدم الحافية ويقتاتون زمن الوفرة على القات. يقارعون آلَ منشار والكلّ يحذَرُهم ويرتعدُ منهم ويتصيّدُ فُتاتهم. يعلمون أن غربَ الاستعمار عليهم وأن الصهاينة عليهم وأن خَوَنَةَ العرب عليهم وأن متشدّقي الثورة والأمة عليهم أَيْـضاً.
مع كُـلّ هذا لا يتراجعون ولا يتزلزلون. لا يتعلّق الأمر بجنونٍ نخبوي يُحصَرُ في جماعة ضيّقة يمكنُ التعامُلُ معها كحالة شذوذ. لا. الملايين يصرخون بميادين اليمن وساحات معاركه، بل لعلّ الصّرخة تتحول عندهم وبينهم تحية صباح وأهزوجة عرس. الصّرخة برمجة ذهنية نفسية فعّالة بما نرى من حصيلة معاركَ وحضور سياسيّ وانتشار إعْـلَامي.
اهتمّ الغربيون بالجنون ولكنّهم اهتمّوا به، في العامّ، اهتمامَ فصل لا اهتمامَ وصل. بمعنى أنّ الجنونَ -كما يفهمون- ضدّ العقل ونقيضه وليس كذلك ضرورة إلا في حالة واحدة متعلّقة بمرضٍ يأتي على الأعصاب فيميتها. غير ذلك يكون الجنون حالةً عقلية جِـدًّا، لعلّها الأقدرُ على تجلية حيوية العقل وقدرته على التجاوز والنقد والتجدّد. في السياسة يسلك الفربيون سلوك محافظة..؛ لذلك فإن الأولية عندهم أن يكون استقرار داخل مجتمعاتهم أوّلاً وفي البلدان التي يخترقونها نفوذا وأخير في كلّ العالم وهم الذين يرعون منذ سنوات طويلة مشروع العولمة الذي يفرضهم مركزاً من دون منافس أَوْ منازع.
يتوجش الغربيون من الجنون؛ لأَنَّه يعرّض المصالح إلى الهزات ويسقط الحسابات ويأتي باللامتوقع واللامنتظر. المجنون مارقٌ لا يسعُه مربّعٌ ولا يقدر عليه احتواء ولا تأتي عليه إحاطة. هو بالتالي خطير وفوق البرمجيات يستعصي على التحكّم ويفلت من السيطرة على الدوام.
الخمينيةُ أزعجتهم لهذا وهم أنفقوا وينفقون مالاً وفيراً وطاقةً جَبَّارةً لدفنها ومنع امتدادها وانتشار عدواها.
ليس صحيحاً أنهم يحاصرون مذهباً شيعياً، فكثيرون من الشيعة حلفاء استعمار ومطبِّعون، وليس صحيحاً أنهم يعادون دين إسْـلَام فجلّ العُمَـلَاء من بين المسلمين. هم يحاصرون الجنون الكافر بالعقل الغربي الهيمني الخاضع المخضع لقوانين الشهادة والطبيعة.
عقلٌ يلقّن على نطاق واسع أنّ على الضعيف أن يركنَ ويستكينَ ولا يتطاول على قوي. الجيفارية أُخت للخمينية؛ لأَنَّ الاثنتين تقتبسان من جنون زبدته رفض لعقل لا يقول بممكن ومختلف وجديد ويحرّم الخروج من النّسق.
بورك جنونٌ يوسّع وملعونٌ عقلٌ يضيِّقُ. أن يكونَ جنونٌ بمذاق شيعي أَوْ ديني أَوْ بمذاق يساري لا يهمّ. المهمّ أن تكونَ سخرية عميقة من سيف القوة البتّار الذي يحوّله الأجلاف منشاراً مفضوحاً مكشوفاً. ما يزعج الغربيين ليس المنشار في ذاته فهم في عُمْقِ ذاتهم منشاريون.
تزعجُهم الفضيحةُ ويقلقهم القبح الكاشف للعورات وكلّ جهدهم عبر العقود إظهار ذوق وتمدن ومزايدة في اللطافة. بن سلمان في ما أتى مجنونٌ أَيْـضاً بمعنى آخر من معاني الجنون والذين يدعمون حربه على اليمنيين ويسلحونه مجانين بمعنى من المعاني التي يحتملها الجنون. صار؛ بسببِ هذا من أعسر العسير رؤية التصنيفات التي يسعى الساسة الغربيون في فرضها تصمُدُ وتستمرّ.
لا الإرْهَـاب حوثي ولا الجنون إيراني، فلقد تجاوز بن سلمان فيهما، وفقط بمنشار، كلّ حدّ. لا يستهيننّ أحدٌ بالورطة الأَخْــلَاقية التي يجدُ الغربَ فيها نفسَه اليومَ والتي تضاف إلى ورطات تأتي عليه لا محالة وليس ذلك بالبعيد.
الحكمةُ يمنٌ واليمنُ حكيمٌ وإسْهَـامه في الحضارة والثقافة قديم عظيم. كلّ الأمر أنّ الذي يفرض التصنيفات اليوم ويحسم الأحكام ويقومس الكلمات مغرور قوّة يسكنه جنون العظمة المدمّر. يسمي المتعرضين لمصالحه المقاومين لجبروته مجانينا ويتكرّم على المستكينين بكلّ ألقاب العقلانية والتحضر والواقعية. الجنون الجنون طغيان الإنْسَان وسلوكه سلوك مالك للكون متحكّم فيه. لا أعتقد أنّ هذا الطغيان سيدوم ومشاريعه تفشل تباعاً وأضخم الفشل ما يتجلى بيمن بلقيس. تقديري، ومنذ البداية، أنّ الساحة اليمنية أخطر الساحات وأنّ ما سيترتّب عن نصر اليمنيين معجز بكلّ المقاييس. سيترتب بحسابات العسكر والتمكين وليس هذا العامل هو الأهم. أعتقد أنّ وعود اليمن المعنوية والرمزية أهمّ من قعقعة السلاح بكثير. سيكون هناك نصر لمن يعرّفون، هكذا على الأقلّ فعل الدعاية، بأنهم أضعف العرب وأَكْثَــرهم فقراً. نصر هؤلاء على أَكْثَــر العرب مالا وأعتاهم سلاحاً لن يكون حدثاً عابراً ولن يقف زلزاله عند حدود اليمن.
نصرُ اليمن سيأتي بعروبة جديدة وسينقل العرب إلى ضفّة الجنون وتكون توبتهم ممّا كبّلوا به من أغلال وحدود. لا يدخل الجنون على أمر إلا زانه ولا يغيب عن أمر إلا شانه ومصداق ذلك عند اليمنيين وبينهم. لا هو عند جماعة كمب ديفيد ولا عند جماعة وادي عَرَبة ولا هو عند جماعة أوسلو.
تجلّي جنون اليمن كأبهى ما يكون بذكرى ميلاد الرسول وتجليه بملايين محتشدة لم يغصبها أحد على الحضور في الساحات آية وبشرى.
المحمّديةُ ضربٌ من الجنون لفرط تنوّر حكيم.
تحضُرُ النبوة بداية في وعي الناس جنوناً وبعد ذلك تتحول سؤالاً ثمّ إذَا انتصرت يتعرّف عليها المنكرون بداية لها حكمة بليغة وبركة سماء.
منصّر هذيلي*
* كاتب تونسي