من يذهب إليها لا يعود.. لماذا سُمّيت اليمن «فيتنام»؟
لم تكد تنتهي مدة الثلاثين يومًا التي حددتها الولايات المتحدة للسعودية والإمارات لإنهاء حرب اليمن، والتي تنتهي فعليًا في آخر نوفمبر (تشرين الثاني) الجاري، حتى أعلن التحالف العربي للمرة الثالثة على التوالي وقف عملياته العسكرية في معركة الحُديدة اليمنية بعدما فشلت في تحقيق أهدافها، وكان آخرها العملية الكبرى التي تزامنت مع التهديد الأمريكي والتي بدت محاولة أخيرة للمنتصر لانتزاع أية مكاسب سياسية وعسكرية سريعة على الأرض بأكبر عتاد عسكري، قبل بدء جولة المفاوضات التي غالبًا ما تفشل، لكنّ الدرس المستفاد من الحرب التي أوشكت على دخول عامها الرابع، هو أنّ معارك اليمن لم تكن ذكرى طيبة في تاريخ الدول الكبرى؛ التي سبق وأن فعلت محاولات السعودية الفاشلة نفسها. هذا التقرير يعود بك للوراء، إلى قصص الحروب الفاشلة في اليمن بدءً من خسائر الدولة العثمانية التي كادت تصل إلى مكّة، مرورًا بما حلّ بالجيش المصري في معارك الجبال في عهد الرئيس جمال عبد الناصر، نهايةً بالحرب التي أعلنتها السعودية في مارس (آذار) عام 2015 قبل أن تجعلها الأيام الطرف الأضعف في المعادلة.
«من يذهبُ إليها لا يعود».. اليمن التي أنهكت أقوى سُلطان عثماني
في عهد السُلطان العثماني القوي سليمان القانوني، كانت الدولة العثمانية في أوج شبابها واتساعها جغرافيًا، خاصة داخل الأراضي العربية تحت مُسمّى الخلافة الإسلامية، ولم تصمد أي دولة دخلها العثمانيون سوى اليمن التي كان يعتبر الصدر الأعظم – رئيس الوزراء العثماني – أن احتلالها هو أسهل مهمة قد يقوم بها أي قائد، إضافة لأهميتها حزامًا أمنيًا لمنطقة الحرمين من هجمات البرتغاليين. وفي عام 1538 كان الجيش العثماني في مدينة عدن الاستراتيجية القريبة من باب المندب، لكنّ مهمة الوصول لبسط سيطرتهم على الشمال كلفتهم 80 ألف جنديًا وتسع سنواتٍ من الحروب الخاسرة؛ يقول دفتردار مصر عن تلك الفترة: «ما رأينا مسبكًا مثل اليمن لعسكرنا، كلما جهزنا إليها عسكرًا ذاب ذوبان الملح ولا يعود منه إلا الفرد النادر».
لم يستطع العثمانيون بسط سيطرتهم على الشمال اليمني سوى بالخيانة التي حدثت بين الابن وأبيه الإمام شرف الدين الزيدي الذي اختار أحد أبناءه ليكون إمامًا من بعده، وتجاهل المطهر الذي كان طامحًا في الحُكم، فتحالف مع قائد الجيش العثماني فسقطت صنعاء عاصمة الدولة الزيدية، ثم تهاوت الإمارات الأخرى الشمالية، وأصبح الابن الذي عزل أبيه إمامًا بالقوة، لكنّ الخيانة التي مكّنت العثمانيين من السيطرة على مساحات كبيرة في اليمن سُرعان ما انقلبت عليهم، بعد تعرضهم للخيانة نفسها من الرجل الذي كان صديقهم بالأمس، كما أن المدن التي سيطر عليها العثمانيون اندلعت فيها نيران الثورات والتمرد، حتى أنّ أويس باشا قائد الجيش تعرض للاغتيال، وكانت اليمن في هذه الفترة موزعة بين ثلاث قوى: الأتراك في الجهات الغربية، والأئمة الزيدية في الجهات الشمالية، بينما خرجت حضرموت والمناطق الشرقية عن السيطرة.
في عام 1576 اقتحم المطهر بجيوشه صنعاء، كما اتفق مع أحد أمراء عدن بالثورة على العثمانيين، حتى حُوصر جيشهم ولم ينج منه سوى 50 جنديًا كانوا ضمن قائدهم مُراد بك الذين أُرسلت رؤوسهم إلى المطهر عقب قتلهم، ليضطر السًلطان سليمان القانوني إرسال فرقة عسكرية ضخمة من مصر لإخضاع اليمن بالقوة.
وبالرغم من أنّ الجيش كان في أوج قوته إلا أنه تعرض لهزائم متلاحقة، كما فشل في القضاء على التمردات والقبض على الإمام المطهر، وبعد وفاته عام 1572، تفرقّ أتباعه ومناصروه واقتتلوا فيما بينهم، وكانت فرصة العثمانيين مثالية لبدء جولة من الانتصارات، لكنهم صدموا مرة أخرى بثورة الإمام المنصور بالله القاسم، الذي سيطر على كافة المناطق الشمالية مما اضطر العثمانيين لتوقيع هدنة معه، مقابل الاعتراف به إمامًا وبتولي ابنه الزعامة من بعده، كانت معظم اليمن خارج مناطق السيطرة العثمانية بسبب الثورات، وفي عام 1634 استتبت الأوضاع لصالح الدولة القاسمية التي أجبرت العثمانيين على الانسحاب من اليمن بعدما قادوا جيشًا صوب مكة للسيطرة عليها، لينتهي معها قرن كامل من الوجود العثماني غير المكتمل على اليمن.
في عام 1872 عاد العثمانيون في عهد السُلطان القوي عبد العزيز الأول إلى اليمن، فأسقطوا الدولة القاسمية، ثم أسسوا ولاية اليمن بعدما تعلموا من كافة أخطائهم في الماضي، فأحكموا قبضتهم على المدن والمحافظات الرئيسة والاستراتيجية دون الحاجة لصعود الجبال وقتال المتمردين والثوار في المحافظات النائية، إضافة إلى التوسط مع رؤساء القبائل واستمالتهم لمنعهم من الدخول في أية أحلاف سواء مع الإنجليز أو القبائل الزيدية في الشمال الطامعة في الحكم، ومع ذلك فقد فشلت خطط العثمانيين وخسروا جيوشهم وأُجبروا على الانسحاب من شمال اليمن.
واعترف السُلطان العثماني عبد الحميد الثاني بالإمام يحيى حميد الدين مؤسس الدولة المتوكلية التي استمرت حتى عام 1962، أما في الجنوب فقد خاض العثمانيون حروبًا ضد الإنجليز الذين سيطروا على عدن، ومع الانتصارات التي حققها قائد القوات العثمانية في اليمن علي سعيد باشا عام 1918، جاءته الأوامر العليا من اسطنبول بالانسحاب التام بعد خسارة تركيا في الحرب العالمية الأولى، لتتوج مسيرة الدولة العثمانية في اليمن خلال حقبتين بالفشل العسكري والسياسي.
حرب اليمن التي أسست لتاريخ متتالي من هزائم عبد الناصر
في عام 1962 شهدت اليمن انقلابًا عسكريًا على نظام الإمام البدر، آخر حكام المملكة المتوكلية على يد حركة الضباط الأحرار بقيادة المشير عبد الله السلال، قائد الحرس لولي العهد، وبات في اليمن بين ليلة وضحاها ملك هارب في الشمال يستقوى بجموع القبائل الموالية في الشمال والشرق والذين كانوا يعتبرونه إمامًا معصومًا من الخطأ، بينما في الجنوب أنصار الجمهورية الذين استعانوا بالرئيس المصري جمال عبد الناصر لإنجاح التجربة الجمهورية التي سبق وأن أسقطت النظام الملكي في مصر والعراق.
يقول الرئيس المصري الراحل محمد أنور السادات في كتابه «البحث عن الذات»: «اجتمع مجلس قيادة الثورة للنظر في طلب ثوار اليمن للنجدة، وكنت أنا أول المتحمسين، وأصبحت مسؤول الجانب السياسي في الحرب، بينما تولى المشير عبد الحكيم عامر الملف العسكري».
تصادم هذا الرأي مع رؤية الضابط المصري صلاح الدين المحرزي الذي عمل ملحقًا عسكريًا في صنعاء، فبينما كانت القيادة السياسية في مصر ترى وجوب المشاركة في الحرب التي ستكون بمثابة نزهة سريعة لدعم الجمهورية الوليدة التي سُرعان ما اعتٌرف بها، رأى صلاح المحرزي على الجانب الآخر أنّ اليمن قضت على أربع فرق عسكرية تركية في القرن التاسع عشر، وأن التضاريس الجبلية واتساع الصحاري إضافة إلى الجيش المصري النظامي الذي لن يستطيع الصمود أمام العدو المتمرس في حرب العصابات، ونتيجة لرسالته القاسية، فقد حُوكم المحرزي فيما بعد بتهمة العصيان في الشهور الأولى من الحرب.
في البداية أرسلت مصر لواءين – وحدتين عسكريتين – عبر جسر جوي أنشئ بمساعدة الاتحاد السوفيتي وفي المقابل قدمت السعودية والأردن وبريطانيا الدعم المادي السخي للإمام الزيدي، ولأن المملكة السعودية تشترك مع القبائل الشمالية في حدود مباشرة، فقد ساعدت الجغرافيا في سرعة الإمداد العسكري، أما على الجهة الأخرى فقد واجه الجيش المصري صعوبة في سرعة الإمداد نظرًا لبعد أرض القتال عن الوطن الأم، كما أن الطرق الجبلية الوعرة جعلتهم صيدًا ثمينًا لعدد لا نهائي من الكمائن، إضافة إلى أنها أجبرت القيادة العسكرية على دفع مزيدٍ من القوات للسيطرة على البلاد التي لم يتمكن الجيش من السيطرة عليها لاتساعها، وفي النهاية وجدت مصر نفسها مضطرة إلى إرسال 70 ألف جندي.
تمثلت خسائر الجيش المصري بعد خمس سنوات من الحرب في مقتل 10 آلاف مقاتل، والإضرار بمخزون الذهب الاستراتيجي، إضافة إلى فاتورة كبيرة من الديون تزامنًا مع قطع المعونة العسكرية الأمريكية، علاوة على أنّ إرسال مصر أكفأ الفرق العسكرية في اليمن أثر سلبًا في حربها مع إسرائيل عام 1967 والتي خسرتها أيضًا وأدت إلى احتلال هضبة الجولان السورية، وقطاع غزة وشبه جزيرة سيناء.
وفي فبراير (شباط) من العام 1967 أجبر عبد الناصر على سحب قواته من اليمن خوفًا من الإفلاس مقابل تعهد الملك السعودي فيصل بن عبد العزيز بمساعدة مصر ماليًّا، ورغم نجاح الثورة إلا أن مصر مٌنيت بهزيمة أخرى بانقلاب العسكري الذي أطاح عبد الله السلال، رجل عبد الناصر في اليمن، وفي عام 1970، انتهت الحرب الأهلية بتوقيع اتفاقٍ بين طرفي النزاع الجمهوري والملكي بتشكيل حكومة جمهورية تضم أعضاءً من الفصيل الملكي، وليس من العائلة المالكة، وهو ما كانت ضربة لمصر التي حاولت في تلك الحرب منع الفرقاء من التوصل لأي اتفاق، وكانت تجربة خسرت فيها القاهرة على الجانب السياسي والعسكري.
محارق اليمن.. هل خاضت السعودية حربًا خاسرة منذ البداية؟
في أواخر عام 2014 قامت قوات الحرس الجمهوري السابق، والقوات الخاصة التي تدين للرئيس اليمني السابق علي عبد الله صالح بمساعدة الحوثيين في السيطرة على صنعاء، ومحاصرة القصر الرئاسي؛ ثم أجبروا الرئيس هادي على تقديم استقالته قبل أن يهرب إلى عدن، ولم تتدخل السعودية لإنقاذ الشرعية اليمنية إلا بعد ستة أشهر كاملة، وفي مارس عام 2015 أطلق وزير الدفاع السعودي الأمير محمد بن سلمان «عاصفة الحزم»، وهي الحرب التي وصفها ولي العهد السعودي قائلًا: «نستطيع أن نحشد القوات السعودية وحدها، وفقط في أيام قليلة نجتث كل المناطق من أيدي قوات صالح والحوثيين»، لكن الحقيقة أنّ حرب النفس الطويل لم تكن في صالح الحلفاء، بعدما أوشكت الحرب على دخول عامها الرابع دون جدوى.
طلبت السعودية والإمارات من كل من مصر وباكستان والمغرب وتركيا وبنجلاديش، المشاركة بقوّات عسكرية بريّة، لكنّ طلبهما قوبل بالرفض، لكنّ السودان سرعان ما أعلن انضمامه للتحالف وأرسل دفعة أولى من الجنود السودانيين تضمّ 1200 جندي، وبعد عدة أشهر تزداد الأعداد لتصل إلى أكثر من 8 آلاف وُضعوا في الصفوف الأولىفي أقوى المعارك والاشتباكات، لكنّ استراتيجية الحروب بين دروب الجبال الوعرة لا زالت تخدم الحوثيين الذين زرعوا الألغام ووضعوا الكمائن وسيطروا على المحافظات التي تفصلها مساحات كبيرة من الصحاري الخاوية.
يسيطر الحوثيون سيطرة كاملة على 10 محافظة من أصل 22 وهم: (العاصمة صنعاء وعَمْران و ذَمار ورَيْمة وإب والمَحْويت والحديدة والبيضاء وصعده وحَجَّة)، وفشل الجيش اليمني الذي يُمثل تعداده نصف مليون جندي، في استعادة الأوضاع، كما أنّ التعليمات العسكرية للقوات السعودية المدعومة بالمقاومة الشعبية متوقفة منذ أكثر من عاميين عند قرية «نهم» التي تبعد عن صنعاء 40 كيلو مترًا فقط، وهي المحطة ما قبل الأخيرة للسيطرة على العاصمة اليمنية، وتشير التقارير الميدانية أن استراتيجية التحالف اعتمدت على الحفاظ على مكتسبات الحرب، بالرغم من المحاولة بالتقدم بقواته ببطئ في العمق، بينما الحوثي هو من يبدأ بالهجوم لإجبار خصمه على التراجع.
طول الحرب الذي كان في صالح الحوثيين مثّل ضغط على السعودية التي واجهت اتهامات دولية بالتسبب في أكبر أزمة إنسانية في العالم، وكانت الضغوط المتزايدة على قادة التحالف سببًا رئيسًا لتغيير استراتيجية الحرب، وفي مايو (أيار) الماضي، تجاهل التحالف كل التحذيرات الأممية من حدوث أزمة إنسانية، وأعلن بدء معركة تحرير الحُديدةالساحلية التي تتمتع بمزايا استراتيجية جعلتها محور الحرب الحالية، فهي رقعة جغرافية كبيرة على ساحل البحر الأحمر، وتبعد عن صنعاء مسافة 226 كيلو مترًا، وتضم ثاني أكبر ميناء يمني، إضافة لاحتوائها على مطار الحديدة، أهم المطارات اليمنية والذي يحوي طائرات عسكرية ومدنية، علاوة على أن إطلالتها على البحر الأحمر جعلتها تفرض استراتيجيتها على الملاحة البحرية في باب المندب وقناة السويس كما أنها تستطيع عرقلة الحركة البحرية من خلال زرع الألغام البحرية وقصف السفن واستهدافها.
لذا بدأت عملية «النصر الذهبي» التي اعتمدت على سياسة الهجوم السريع وانتزاع الأراضي بالضغط العسكري المتزايد وصولًا للميناء والمطار في قلب المدينة، وبالرغم من الانتصارات السريعة التي حققها التحالف في الساعات الأولى، إلا أنها سرعان ما تحولت إلى خنادق حصار واسعة؛ فالألغام الشرسة التي ما زالت تختبئ في باطن الأرض الوعرة أجبرت التحالف على عدم إكمال تقدمه وصولًا إلى المطار والميناء، كما أنّ التحالف وجه نداء استغاثة لفرنسا للقيام بعملية استخباراتية ونوعية لإزالة الألغام التي حصدت أرواح مجانية لصالح الحوثي الذي لم تهدأ نيران مدافعه الثقيلة من استهداف 21 ألف جندي هم قوام الجيش المشارك في العملية، ونتيجة لفشل العملية في إتمام أهدافها أعلنت السعودية وقفها تمهيدًَا لبدء جولة أخرى من المفاوضات الأممية الفاشلة التي منحت الحوثيين في كل مرة الفرصة الأكبر في فرض مطالبهم.
جدير بالذكر أن التحالف العام الماضي قد أطلق عملية «الرمح الذهبي» للسيطرة على الساحل الغربي ولتأمين الحدود المائية بداية من باب المندب وحتى ميناء الحديدة، لكنّ العملية لم تكمل أهدافها بانتزاع المحافظة الهامة للحوثيين؛ إذ أدى طول مدة المعركة إلى تراجع القوات للخلف مرة أخرى، وبالرغم من أن التحالف استطاع اغتيال عدة قادة للحوثيين، إلا أنّ الزعيم الحوثي اعتبر أن السعودية بدأت حربًا وفشلت في حسمها، وهو ما يبدو جليًا في الصواريخ البالستية التي عبرت سماء الرياض عدة مرات.
ويمكن القول إن السبب في فشل ثلاثة حروب كبرى في اليمن، هو أنّ كل استراتيجيات الحروب النظامية بدءًا من العثمانيين ومرورًا بالجيش المصري، ونهايةً بجيش التحالف العربي لم تكن لتصمد أمام حروب الجبال، كما أنّ الدبابات والفرق العسكرية لا تستطع الصمود أمام حقول الألغام وكمائن حروب الشوارع، والأخطر أنّ ولاء القبائل اليمينة سريع التقلب؛ مما يجعلهم حلفاء غير دائمين، ولا يجب الاعتماد عليهم، وهي الخطيئة التي وقع فيها العثمانيون بالاعتماد على المطهر، وكررتها السعودية بالتحالف مع الرئيس المقتول علي عبد الله صالح الذي قُتل بسبب تحالفاته المتضاربة، لذلك نخلُص إلى أن اليمن بموقعها الجغرافي ووضعها السوسيولوچي الحالي ستظل «فيتنام» الجميع حتى حين؛ لتشابهها مع حالة فيتنام التي قهرت أعظم الجيوش على أراضيها.
*ساسة بوست