عبد الباري عطوان : أربعة حراكات شعبية جديدة قد تغير وجه منطقة الشرق الأوسط؟

إب نيوز ٢٣ مارس

عبد الباري عطوان :
أربعة حراكات شعبية جديدة قد تغير وجه منطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا ومستقبلها.. احدى عشر سببا تميزها عن سابقاتها.. ما هي؟ ولماذا نعول كثيرا على الحراك الجزائري الحالي تحديدا؟

شهدت المنطقة العربية في الأشهر الأخيرة أربعة حراكات شعبية، في الجزائر والسودان والأردن وقطاع غزة، وحاول البعض وصفها بأنها الموجة الثانية، او “الحركة التصحيحية” لموجة “الربيع العربي”، الأولى التي انطلقت من تونس ثم امتدت الى في مصر وتونس وليبيا واليمن وسورية في عام 2013، ونجحت في تغيير بعض الأنظمة كليا، وخاصة في ليبيا وتونس، وجزئيا في مصر واليمن، بينما فشلت في سورية، وجرى امتصاص نظيرتها في المغرب وسلطنة عُمان، والأردن في بداياتها من خلال بعض الإجراءات الإصلاحية السريعة، والتعاطي المدروس.
***
الحراكات الأربعة المذكورة آنفا، أي في الجزائر والسودان والأردن وغزة، ليست متطابقة، ولا يمكن حصرها في قالب واحد، فالامور نسبية، والمقارنة ليست جائزة، وتختلف كليا عن نظيراتها في الموجة الأولى ويمكن رصد هذا الخلاف بين الموجة الحالية ونظيرتها السابقة قبل ثماني سنوات في النقاط التالية:
أولا: قناة “الجزيرة” التي لعبت الدور التحريضي الأول في الحراكات الاولى في تغطية امتدت على مدى 24 ساعة، وفي ظل تحشيد غير مسبوق لعشرات، وربما مئات، المحللين والخبراء “العسكريين”، غابت كليا عن الحراكات الأربعة الأخيرة، او لم تغطها بالكثافة السابقة، لأسباب عديدة، يعود ابرزها الى تجربة “الثورة” السورية، وفشلها في اطاحة النظام، وافتضاح الدور الاستخباري الغربي فيها، وتسليح معظم فصائلها، واختراقها من قبل الجماعات السلفية المتشددة، واللعب على وتر الطائفية.
ثانيا: لعبت حركات اسلامية، دورا بارزا في معظم هذه الثورات، وبدعم من قوى خارجية، والولايات المتحدة الامريكية وبريطانيا وفرنسا خاصة، وتمويل سعودي قطري، بينما لم يتم رصد اي دور مماثل لهذه الحركات الإسلامية في أي من الحراكات الأربعة المذكورة آنفا، وهذا ما سنشرحه لاحقا.
ثالثا: موجة الثورات العربية الأولى، وخاصة في مصر وليبيا وسورية وتونس ابرزت “نجوما”، ومن الإسلاميين خاصة، مثل الشيوخ يوسف القرضاوي، وسلمان العودة، محمد العريفي، عدنان العرعور، علي الصلابي، راشد الغنوشي، واصبح هؤلاء وغيرهم المنظرين الحقيقيين لهذه الثورات، استخدموا وسائط التواصل الاجتماعي مثل “الفيسبوك” و”التويتر” لتعبئة الشارع العربي، ووصل اتباع هؤلاء في العالم الافتراضي الى الملايين، لكن هؤلاء النجوم وامثالهم غابوا كليا عن الموجة الثانية من الحراك، سواء لان الجماهير تعلمت دروس التجربة السابقة، او لان معظم المشاركين فيها من الشباب المؤطر غير المؤدلج، ووجود حرص اكيد على عدم افساح المجال للاسلاميين بالمشاركة في الفعاليات الاحتجاجية، او قيادتها على الاقل.
رابعا: تمسك جميع الحراكات الأربعة بالسلمية، وعدم الدخول في مواجهات مع رجال الامن، وتجنب اعمال النهب والتكسير للممتلكات العامة والخاصة، والحفاظ بقدر الإمكان على مؤسسات الدولة وهياكلها، مما يعكس الحرص على تجنب “خطايا” الموجة الأولى التي انتجت دولا فاشلة مثل الليبية واليمنية.
خامسا: غياب الدعم الخارجي، الغربي والعربي معا، لرفض المحتجين الجدد له، وفي الجزائر والسودان تحديدا، وانشغال دول مثل قطر وتركيا، ابرز الداعمين للحركات الإسلامية التي قادت الموجه الأولى بأزمات داخلية، مثل تعرض قطر لحصار من الدول الأربع المقاطعة لها (السعودية، الامارات، البحرين، مصر)، وتركيا لانقلاب عسكري، وازمات اقتصادية، وموجات هائلة من النازحين (3.5 مليون لاجئ سوري).
سادسا: خفتان وهج النموذج التركي الإسلامي الذي ارسى دعائمه الرئيس رجب طيب اردوغان، ووضع تركيا في المرتبة الـ13 على قائمة اقوى اقتصاديات في العالم، وهو نموذج قام على ثلاثة أسس، الديمقراطية، والنمو الاقتصادي، والإسلام المعتدل، ولعل التدخل التركي في الازمة السورية، وتدخل قوات تركية وسيطرتها على بعض المناطق في سورية ووصفها بالاحتلال، والاعتقالات الواسعة التي وقعت بعد الانقلاب العسكري، هزت هذا النموذج لصالح نموذج الدولة المدنية الديمقراطية.
سابعا: الفشل الإداري، والفوضى السياسية والأمنية التي سادت معظم دول الموجة الأولى من الربيع العربي جعلت من الجماهير العربية الأكثر حذرا، والاقل حماسا، وتقديم بعضها الامن والاستقرار على الإصلاحات الجذرية، واستغلال الحكومات الديكتاتورية والثورات المضادة لهذا التحول وتغذيته، وقفز المؤسسات العسكرية الى سدة الحكم بشكل مباشر وغير مباشر، واستخدام القبضة الحديدية ضد معارضيها.
ثامنا: وقوف الاحتياطات المالية الخليجية الهائلة الى جانب الأنظمة البديلة، وخاصة في مصر، وضخ اكثر من 50 مليارا لدعم اقتصادها، وتوظيف المليارات في تأسيس امبراطوريات إعلامية مضادة، وجيوش الكترونية عملاقة للتصدي للإسلاميين وقنواتهم ورموزهم، ومحاولة تقليص نفوذ “الجزيرة”، وانهاك قطر، وتركيا، بدرجة اقل، في معارك قضائية وحروب علاقات عامة، وتجسس الكتروني، ومئات المواقع الكترونية، كلها عوامل أدت الى اثارة شكوك الشارع العربي، واداركه لحالة الاستقطاب الراهنة واثارها السيئة، ونهجها الدعائي المضلل.
تاسعا: رغم غياب الرموز والقيادات في الحراكات الشعبية الحالية، الا ان مستوى التنظيم والانضباط كان عليا، والشيء يقال أيضا عن حالة الوعي التي تعكس حسابات دقيقة، فالمتظاهرون في الجزائر كرروا دائما امرين أساسيين: الأول انهم لن يسمحوا بتكرار أخطاء التجربتين الليبية والسورية واغلاق الأبواب بإحكام في وجه كل من يريد تسليح الجماهير، او السماح بتسلل المتطرفين العقائديين اليها، والثاني تجنب التقسيمات الطائفية والعرقية، والحفاظ على الوحدة الوطنية حتى الآن على الأقل، والرد على المخاوف من نظرية المؤامرة بالتمسك بالاستقلالية المطلقة عمليا، ومقاومة التدخلين العربي والغربي.
عاشرا: اللافت ان الحكومات بدأت تتعلم من تجارب نظيراتها في الجولة الأولى، من حيث مقابلة السلمية بالسلمية من قبل رجال الامن، مثلما حصل في الأردن والسودان والجزائر، وليس في غزة، والتحلي بضبط النفس الأمني، واستخدام الحد الأدنى من وسائل القوة، وتقديم تنازلات جوهرية، ففي السودان تعهد الرئيس البشير بعدم تعديل الدستور، وخوض الانتخابات المقبلة على رأس حزبه، واجرى بعض التغييرات في قمة الحكم، وفي الجزائر اضطر الرئيس بوتفليقة، او المجموعة التي كانت تستخدمه كواجهة، وتحكم من خلف الستار، الى الغاء العهدة الخامسة، وانتخاباتها، ووضع دستور جديد للبلاد، وتشكيل لجنة وطنية للحوار لتغيير طبيعة نظام الحكم، ولجنة بأخرى جديدة مستقلة للانتخابات، واقالة الحكومة، ومن غير المستبعد ان يؤدي استمرار الاحتجاجات بالزخم الذي رأيناه يوم الجمعة الماضي الى تنازلات أخرى على طريقة احجار الدومينو.
احدى عشر: الحراك الشعبي الذي انفجر في قطاع غزة ضد حركة “حماس″، وحمل شعار “بدنا نعيش” كان الوحيد تقريبا من بين اقرانه الثلاثة الأخرى الذي خالف بعض القواعد والإستخلاصات المذكورة آنفا، أولا، لان شرطة “حماس” السرية والعلنية، استخدمت درجات عالية من القمع في مواجهة المتظاهرين، ومعظمهم من الجوعى والمطحونين، وجرى تكسير الأطراف لبعضهم، والاعتداء بالضرب على النساء، واقتحام المنازل في مجتمع محافظ جدا، وثانيا، لدخول السلطة في رام الله على الخط من منطلق التنافس والتباغض الفصائلي، وترددت انباء لا نعرف مدى صحتها تؤكد على ادراك قيادة “حماس” لفداحة اخطائها واعتذارها، واذا تأكد هذا فانه يشكل مراجعة مهمة، مع الاخذ بالاعتبار ان ظروف قطاع غزة الواقع تحت الحصار الخانق ماليا وسياسيا تختلف كليا عن جميع الحراكات السابقة.
***
الهجمة الامريكية والإسرائيلية الشرسة ضد العرب والمسلمين، وهزيمة “الدولة الإسلامية” (داعش) في العراق وسورية، والازمة المتفاقمة في العلاقات الامريكية التركية، على أرضية صواريخ “اس 400” الروسية، والحرب الامريكية على الليرة التركية التي تجددت وفشل محاولات الفتنة الطائفية، وتقسيم المنطقة على اساسها، وصمود الجيش العربي والتعافي التدريجي المتسارع في سورية والعراق، واقتراب الأخير (العراق) من محور المقاومة، واسقاط ترامب صفة الاحتلال عن الضفة والقطاع والجولان، بما يمهد لضمها للدولة العبرية، كلها عوامل جعلت الحراكات الجديدة تجمع بين العاملين الداخلي المعيشي والاصلاحي من ناحية، والهم الوطني العربي والإقليمي من ناحية اخرى، وانعكس هذا بجلاء في حالات رفع فيها المحتجون العلمين الجزائري والفلسطيني جنبا الى جنب في “رمزية” تعني الكثير.
لا نستطيع ان نختم هذه المقالة دون الإشارة الى تجربة الحراك الأردني، وان كانت اقل زخما الا انها اسقطت حكومة، واحدثت تحولا ملموسا في كيفية تعاطي السلطة مع مطالب المحتجين في مواجهة الفساد والإصلاح السياسي، والاهم من ذلك وقف اندفاعها، أي السلطة الأردنية، نحو صفقة القرن، وارتفاع منسوب الوعي الوطني الأردني بكل الوانه، تجاه هذه الصفقة، وابرز اخطارها تحويل الأردن الى وطن بديل، واسقاط الولاية الهاشمية عن المقدسات في القدس المحتلة.
نحن امام حراك شعبي حضاري سلمي منضبط امامه فرصة كبيرة لكي يكون القدوة والنموذج لتغيير شامل للمنطقة باسرها، عنوانه الأبرز الجزائر، فهذا الحراك، اذا استمر بالوتيرة نفسها سيصحح أخطاء جميع الحراكات و”الثورات” الأخرى، ويحقق التعايش ويرسخ الوحدة الوطنية أيضا، فالجزائر التي يزيد تعدادها عن 43 مليونا وتعتبر الاكثر مساحة في المشرق والمغرب وافريقيا، تملك الغاز والنفط والماء والشعب والتجربة الثورة المشرفة.. والأيام بيننا.

You might also like