عبدالباري عطوان: لماذا كان اعتراف الرئيس عمر البشير بتلقّيه 90 مليون دولا من السعوديّة في الجلسة الأولى لمُحاكمته صادمًا؟
إب نيوز ٢٠ اغسطس
عبدالباري عطوان: لماذا كان اعتراف الرئيس عمر البشير بتلقّيه 90 مليون دولا من السعوديّة في الجلسة الأولى لمُحاكمته صادمًا؟ وما هي المخاطر التي تُهدّد الحُكم الجديد في السودان؟ ولمَن ستكون الغلبة في القِوى الثّلاث المُتصارعة للهَيمنةِ عليه؟
نعترِف بأنّنا شعرنا بحالةٍ من الصّدمة عندما أعلن العميد شرطة أحمد علي أنّ الرئيس عمر البشير اعترف أمام المحكمة أمس بأنّه تلقّى 90 مليون دولار من الأمير محمد بن سلمان، وليّ العهد السعودي، وكانت من بين مبالغ نقديّة قيمتها 113 مليون دولار بعُملات مُختلفة تم العُثور عليها في مقرِّ إقامته، حسب إعلان السيد عبد الفتاح البرهان، رئيس المجلس العسكري، والمجلس السّيادي المُختلط الذي سيَحكُم السودان في الفترة الانتقاليّة.
مصدر الصّدمة أنّ جبهة الإنقاذ السودانيّة الإسلاميّة التي تزعّمها الرئيس البشير وحكمت السودان لثلاثين عامًا، كانت تؤكّد دائمًا نظافة اليد، والتِزامها بمُحاربة الفساد تطبيقًا لقيم الشريعة الإسلاميّة ونُصوصها.
والأكثر من ذلك أنّ الدكتور حسن الترابي، رحمه الله، الذي كان شريكًا للرئيس البشير في الانقلاب الذي أطاح بالحُكم الديمقراطي المُنتخب في السودان كان في البدايات الأولى يُشيد بنزاهة البشير، وأكّد لنا أنّه كان الشخصيّة العسكريّة القياديّة الوحيدة الذي كان يُعيد المُكافأة التي تُمنح له كبدل سفر إلى الخزينة السودانيّة دون أن يُصرف منها دولارًا واحدًا، وكان زاهدًا ويعيش حياةً مُتواضعةً جدًّا.
ما يبعث على التّفاؤل، أنّ الرئيس السوداني السابق، بات بين يديّ القضاء، وتتزامن مُحاكمته مع الانتصار الكبير الذي حقّقه الحِراك المدني الشعبي السوداني وتمثّل في الإطاحة بالحُكم العسكري الديكتاتوري الفاسد، وتوقيع الإعلان الدستوري الذي يُوثّق الشراكة في الحُكم بين المجلس العسكري وتحالف قوى الحريّة والتّغيير التي تزعّمته، وهو الإعلان الانتقالي الذي نَص على تأسيس ثلاثة مجالس تكون أعمدة الحُكم الأساسيّة وهي المجلس السيادي (11 عضوًا بالمُناصفة زائد عضو قبطي وهي رجاء نيكولا عبدالمسيح) ومجلس وزراء برئاسة عبد الله حمدوك، ومجلس تشريعي مدني مُؤقّت.
هذه الصيغة السودانيُة جاءت حلًّا وسَطًا بين نموذجين أحدهما جزائري تمخّض عن حراك شعبي أطاح بحُكم الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، طِبقًا للدستور وتولّي رئيس مجلس الشعب للدولة وتأسيس حُكومة مدنيّة تمهيدًا لانتخابات رئاسيّة وتشريعيّة بعد ثلاث أشهر وبقاء المؤسسة العسكريّة في الظّل كحارس للتّجربة، أمّا النّموذج الثاني، فهو مِصري تقوده المؤسسة العسكريّة المِصريّة، ولكن بزيّ مدني، وهو حُكم يُعطي الأولويّة للتنمية والإصلاح الاقتصادي، واستخدام القبضة الحديديّة ضِد المُعارضة.
كان لافتًا أنّ النّموذجين المِصري والسوداني الجديد يلتقيان على أرضيّة واحدة، وهي الاعتماد على القِوى العلمانيّة (الحزب الشيوعي والنقابات المهنيّة في حال السودان، والقِوى القوميّة الناصريّة، واليساريّة في حال مِصر) وتهميش القِوى الإسلاميّة، وخاصّةً حركة الإخوان المسلمين التي كانت تحكُم في البلدين.
ثلاث قوى خارجيّة رئيسيّة تتصارع حاليًّا على الاستحواذ على موضِع قدم مؤثّر في العمليّة السياسيّة السودانيّة الجديدة، أو بالأحرى الوليدة.
الأولى: التحالف الثلاثي المصري الخليجي (السعوديّة والإمارات) الذي دعم المجلس العسكري وانقلابه على حكومة البشير ماليًّا وسياسيًّا وتمثّل في حفل توقيع الإعلان الدستوري بالسيد عادل الجبير، وزير الدولة السعوديّة للشؤون الخارجيّة.
الثانية: المُعسكر القطري التركي الذي دعم حُكم الرئيس عمر البشير طِوال السنوات الماضية، ثم نقل هذا الدعم بصورةٍ أو بأُخرى إلى الحِراك الشعبي، الأمر الذي دفع بالمجلس العسكري إلى إغلاق مكتب قناة “الجزيرة” في الخرطوم، ولوحِظ غيابه أو تمثيله الضّعيف في حفل توقيع الإعلان الدستوري يوم السبت الماضي.
الثالثة: الاتحاد الافريقي الذي كانت إثيوبيا رأس حربته، وكان حاضرًا بقوّةٍ في الحدث السوداني، ولعِب السيد أبي احمد، رئيس وزراء إثيوبيا، دورًا كبيرًا في التّقريب بين الجانبين في المُعادلة السودانيّة، أيّ الحِراك الشعبي والمجلس العسكري من خلال وِساطة فاعلة تكلّلت بالنّجاح، وعلينا أن نتذّكّر دائمًا أن 80 بالمئة من مياه نهر النيل تأتي من النيل الأزرق القادم من إثيوبيا.
ما زال من المُبكر القول أيّ من هذه القوى الثلاث ستكون لها الغلبة في نهاية المطاف، لكن من غير المُستبعد أن يكون للمُعسكرين الإفريقي من ناحيةٍ والمِصري السعودي الإماراتي الفُرصة الأكبر في النّجاح في حال سارت الأمور بالصّورة التي هي عليها الآن، وتم تولّي المجلس السيادي المُختلط السلطة دون عقَبات، وزال خطر الانقلابات العسكريّة كُلِّيًّا، ولم يتمرّد التيّار الإسلامي بأضلاعه الثلاثة (المؤتمر الشعبي، المؤتمر الوطني، الإخوان المسلمين) على مُحاولاتِ تهميشه.
الحذر مطلوب، عدم استباق الأمور وإصدار أحكام نهائيّة جازمة هو عين الحِكمة في التّعاطي مع الشأن السوداني وتطوّراته المُتسارعة، لكن ما يُمكن قوله في خِتام هذه الافتتاحيّة هو أنّ الشعب السوداني وحِراكه الحضاري السلمي حقّق انتصارًا كبيرًا يرفع الرؤوس عاليًا، وفرض التغيير الديمقراطي بالتّضحيات، دمًا وأرواحًا وشُهداء ولهذا يستحقّ التّهنئة من كُل شُرفاء هذهِ الأمّة.
“رأي اليوم”