عبدالباري عطوان: لماذا استجاب الشارع المصري “لانتفاضة” محمد علي و”تحرك” ولم يستجب لدعوات الاخوان؟
Share
إب نيوز ٢٤ سبتمبر
عبدالباري عطوان:
لماذا استجاب الشارع المصري “لانتفاضة” محمد علي و”تحرك” ولم يستجب لدعوات الاخوان؟ من هو هذا “الدبوس” الذي فجر الاحتقان؟ وكيف خدمته بعض أخطاء النظام؟ وكيف سترد المؤسسة العسكرية المصرية على هذا التحدي؟ وما اثر ثورات الجزائر والسودان في كل ما حصل وقد يحصل في مصر؟ وهل ستشهد الميادين تظاهرات مليونية الجمعة المقبل؟
تجنبنا كثيرا الكتابة عن مصر في الفترات الأخيرة، ليس لأنه لا يوجد ما يمكن الكتابة عنه، فمصر دولة رائدة ولادة، ولا تتوقف حراكاتها في مختلف المجالات، ولكن المشكلة تكمن في التقاء السلطة والمعارضة على أرضية واحدة “فمن ليس معنا فهو ضدنا”، فاذا انتقدت النظام واخطاءه واخفاقاته، فانت “اخوانيا”، واذا تفهمت بعض توجهاته وسياساته في ضرورة إعطاء الأولوية للتنمية الاقتصادية لإخراج البلاد من ازماتها وتجنيبها ما حدث في ليبيا وسورية من فوضى دموية، فانت مع الثورة المضادة، ومع الديكتاتورية في خندق العداء للربيع العربي بشقيه القديم والجديد، وهذا لا يعني مطلقا المساواة بين نظام يملك الكثير من أدوات القمع ولا يسمح بأي معارضة او سقف من الحريات، عاليا او منخفضا، وبين معارضة إسلامية خسرت الحكم، وتشتت شملها، وتقبع قياداتها في السجون والمعتقلات ينتظر بعضهم تنفيذ حكم الإعدام، والمحظوظ من نجا بجلده ويعيش في المنافي.
مصر الآن تعيش مخاضا جديدا مختلفا، يتمثل في تحرك، او “تململ” الشارع مجددا، واقدام متظاهرين على كسر حاجز الخوف والرعب، بنزولهم الى شوارع وميادين مدن رئيسية مثل القاهرة والاسكندرية وحلوان والسويس الجمعة الماضي، تعتبر القاعدة الرئيسية للمجتمع المدني، وايا كانت نتائج هذا الحراك، سواء بتغيير النظام او عدمه، فانه سيقود الى مصر “مختلفة” واصلاحات شاملة، وتصحيح مسارات عدة لم تحققها ثورة “يناير” التي جرى خطفها، وحرفها عن تحقيق أهدافها، سواء بانقلاب عسكري مدعوم بهبة شعبية، او لأخطاء ذاتية تعود الى عدم خبرة المعارضة وشباب الثورة، وليس هناك مجال الشرح والاطالة.
***
مصر كالنيل، بطيئة التحرك، ولكن اذا تململت، وتحركت فإن تحركها يكون مثل “البلدوزر” يكتسح كل شيء امامه، وهذا ما حدث في الثورات المصرية جميعا، سواء تموز (يوليو) عام 1952، او ثورة كانون الثاني (يناير) الأخيرة، ولا احد يستطيع ان يتنبأ بما يمكن ان يحدث لثورة “محمد علي” الحالية، وهو ما سنتناوله لاحقا.
هناك حزبان كانا وما زالا يتنافسان على السلطة في الأعوام الأخيرة، وقبل اشتعال فتيل ثورة يناير، الأول حزب المؤسسة العسكرية التاريخي القوي، وحزب المؤسسة الدينية الإسلامية الممثلة بالاخوان المسلمين، الصراع حسم لمصلحة الحزب الأول، لانه الأقوى، والوحيد المتماسك الذي يملك أسباب القوة وصفة التنظيم الحديدي، ولكن التراجعات الأخيرة في انتخابات تونس الرئاسية، وغياب الاسلام السياسي عن ثورة الجزائر، اكدا حدوث تغييرات في هذا المضمار تحتاج الى مراجعات.
دعونا لا نخدع انفسنا، ونعترف بأن من يحكم في مصر والجزائر وسورية والسودان هو المؤسسة العسكرية، ولهذا كان اول قرار اتخذه بريمر حاكم العراق العسكري بعد الإطاحة بحكم البعث، كان حل الجيش، ولولا تماسك الجيش العربي السوري وصموده، لواجهت سورية مصير العراق، والفوضى التي يعيشها، وضعف الحكومة المركزية لمصلحة التفتيت الطائفي والعرقي المباشر او غير المباشر.
دول الخليج وبتحريض من الغرب، اضعفت جيوشها عمدا، لأنها لا تريد بديلا يهدد الاسر الحاكمة، واعتمدت على الحماية الامريكية الغربية، وهذا هو سبب فشلها في حرب اليمن، فرغم مئات المليارات التي جرى انفاقها على التسليح، عجزت هذه الجيوش عن الانتصار على الحركة الحوثية الضعيفة التسليح خاصة في الأيام الأولى للازمة، وقبل وصول الدعم العسكري الإيراني، ولكن شهر العسل لمعظم أنظمة الحكم فيها يقترب من نهايته بطريقة او بأخرى، الا اذا حصلت “معجزات”، ولسنا في زمنها.
المؤسسة العسكرية المصرية التي تحكم مصر من خلال الرئيس عبد الفتاح السيسي، ومن قبله الرؤساء: محمد نجيب، وجمال عبد الناصر، وأنور السادات، وحسني مبارك، ارادت تنمية اقتصادية بدون إصلاحات حقيقية، وإدارة حداثية، للازمات المصرية، ولهذا ظل الوضع المصري “معلعلا”، رغم الاستقرار وبعض النجاحات الاقتصادية التي لا يمكن نكرانها، فالاحتقان الداخلي تضخم نتيجة تفاقم معدلات الفقر والبطالة، واتساع الهوة بين الأغنياء والمحرومين، واستفحال الفساد، فماذا نتوقع من بلد يعيش 40 بالمئة من شعبها تحت خط الفقر غير انتظار “الدبوس” الذي يفجر الاحتقان؟
الرئيس السيسي له فرصة تاريخية لاخراج مصر من ازماتها، فقد حظي بدعم شعبي واسع النطاق طوال السنوات الخمس الماضية، ودعم خليجي بلغت قيمته 50 مليارا، ومباركة من أمريكا واوروبا، ولكن نقطة ضعفه في رأينا اتباعه مشروعا اقتصاديا امنيا محليا في ظل غياب كامل للمشروع السياسي الاستراتيجي بشقيه الداخلي والخارجي، حوّل مصر من دولة “متبوعة” الى دولة “تابعة” لدول الثروة والمال الأقل شعبية في الوطن العربي والعالم الاسلامي، ولكن هذا لا ينفي تحقيق نسبي للاستقرار والامن بالحدود الممكنة، وهما شرطان اساسيان لاي تنمية اقتصادية ناجحة، رأينا نموذجها الأبرز في الصين، مع الفارق طبعا.
المشكلة الرئيسية التي واجهها، ويواجهها الرئيس السيسي انه أراد ان يكون عبد الناصر آخر، دون ان يكون هناك مشروع أيديولوجي “حداثي” يميزه في محيطه، وإعلان قوي يدعمه، ومؤسسة حكم تضم العديد من العقول المبدعة التي تقدم له الاستشارات في الميادين كافة، وسقف حريات اعلى واحترام لحقوق الانسان، خاصة انه يواجه معارضة عقائدية لها جذور عميقة في المجتمعين المصري والإسلامي وتملك مشروعا يجد قبولا في الشارعين المصري والعربي.
لسنا من الذين ينظرون دائما الى الجانب الفارغ من الكوب، ولا ننكر مطلقا ان هناك بعض الإنجازات في المجال الاقتصادي خاصة، ولكن المشكلة ان ثمار هذه الانجازات، في حال وجودها، لم تصل الى الفقراء المسحوقين، وانما الى القطط السمان، فالطبقة الوسطى تآكلت، والفقراء ازدادت فقرا، ومعدلات البطالة في أوساط الشباب ما زالت مرتفعة.
نقطة أخرى لا نستطيع تجاهلها، وهي ان من اكبر الاضرار التي جرى الحاقها بالرئيس السيسي ونظامه، تأتيه من أصدقائه اكثر من اعدائه، فعندما يصفه الرئيس ترامب بأنه “ديكتاتوره” المفضل، ويتغنى الإسرائيليون به كصديق وحليف قوي ليل نهار، فان هذا يكرر القول “الله احميني من اصدقائي اما اعدائي فأنا كفيل بهم”.
“الدبوس” الذي فجر الاحتقان الحالي في مصر لم يكن اخوانيا ملتحيا، او حليقا مقنعا، وانما شاب اسمر “فهلوي” بسيط، طموح، وجريء، اسمه محمد علي، واحد من عامة الشعب، لحق به ظلم “مالي” كبير يقول انه جاء على يد المؤسسة العسكرية التي يتهمها بحجب حقوقه (15 مليون دولار) لأسباب ما زالت غير واضحة، فقرر الانتقام على طريقه الامام أية الله الخميني في السبعينات، ليس بالكاسيت، وانما بأشرطة “الفيديو” رغم الفارق الكبير جدا بالمقارنة، فنحن نتحدث عن الوسيلة هنا.
محمد علي ليس محمد عبده الفيلسوف، ولا جمال الدين الافغاني الإصلاحي، وان كان لجأ الى الغرب مثلهما لإيصال رسالته، انسان وسيم بسيط، ومقاول صغير عاش في رحم النظام، عفوي يتحدث بالعامية، ولا يستعين بآيات قرآنية او احاديث نبوية، ولهذا استجاب له قطاع من الشعب المصري ولبوا دعوته بالنزول الى الشوارع والميادين، وهو ما لم تنجح به حركة “الاخوان المسلمين، وكل قوى الإسلام السياسي واليساري القومي الأخرى، الامر الذي يتطلب التأمل والدراسة.
لا نريد استباق الاحداث، والتنبؤ بأمور قد لا تحصل، رغم ايماننا المطلق بأن النموذجين السوداني والجزائري اللذين صححا أخطاء “الربيع العربي” الفادحة، بإنضباط المؤسسة العسكرية وانحيازها للمجتمع المدني وثورته الحقيقية السلمية الليبرالية، قد يتكررا في مصر ودول عربية أخرى، لانهما اثبتا ان “التعايش” ممكن بين الجيش والشعب، وان هذا التعايش قادر على التغيير في القاع الشعبي وقمة الحكم معا، ودفن النماذج الدموية والفوضوية في ليبيا وسورية، وما رافقها من تدخلات عسكرية غربية وعربية مدمرة، ولو مؤقتا.
***
الأنظار تتجه الآن الى اسبانيا حيث يقيم محمد علي ويسجل اشرطته التحريضية، ويجد الذخيرة في بعض أخطاء مؤسسة الحكم، والازمة الاقتصادية المتفاقمة، وحالة الفقر المقدح في أوساط الغالبية من الشعب المصري، والسؤال هو، هل يستجيب الشارع المصري لدعوته بمظاهرات مليونية في ميادين مصر وشوارعها الجمعة المقبل؟
يصعب علينا الإجابة، فمصر واحدة من اكثر الدول صعوبة في التنبؤ بما يمكن ان يحدث فيها من مفاجآت، فمن كان يتوقع ظهور هذا الشاب البسيط محمد علي فجأة، وبهذه السرعة واحداث هذا التأثير، واحتلال العناوين الرئيسية في صحف العالم ومحطاته؟
ربما يكون هذا الشاب انطلق وحيدا متأثرا ومؤثرا من حجم مظلوميته، وكان جريئا في تعليق الجرس، وتحدى مؤسسة عسكرية مصرية راسخة، وأجهزة امن تستخدم قبضة حديدية جبارة ضد خصومها، ولا نستبعد التفاف بعض الجهات حوله، خاصة من داخل مصر، لها أسبابها وخلافاتها مع النظام، وبعضها يملك أدوات إعلامية جبارة، ولكن الرد عليه بالطرق التي رأيناها تخدمه، و”مشروعه” مثل الاعتراف ببناء القصور وظهور محمود السيسي نجل الرئيس على شاشة التلفزة في هذا التوقيت بالذات، مذكرا، ان لم يقصد، بجمال مبارك، سيئ الذكر.
يوم الجمعة المقبل سيكون يوما حاسما بالنسبة الى مصر، سواء تجاوب الشارع مع دعوة التظاهر او لم يستجب، مصر التي نتمنى لها الامن والاستقرار، ولشعبها الشريف الوطني المفعم بالكرامة والعزة الوطنية الامن والرخاء، فمصر هي الريادة والقيادة بالنسبة الينا، ولا يمكن ان تقوم قائمة للمنطقة بدونها.. ونحن في الانتظار، وهذا اسلم المواقف واحكمها، وربما يكون لنا عودة.