كاتب لبناني : “الفراغُ الأمريكي” محظورٌ في اليمن .
د. وفيق إبراهيم*
تدميرُ السلطات ومنعُها من الاستجابة النسبية للمطالب الشعبية يتواصلُ في العراق ولبنان، متسبِّباً بانسدادٍ عميقٍ في العلاقة بين الساسة والجمهور.
لكن محاولاتِ السعوديّة خلقَ ظروفٍ مناسبةٍ لإنتاج وضعٍ مماثلٍ في اليمن لا تلقى رواجاً إلى حدود الرفض الشعبي الكامل لمثل هذه الوضعيات.
بدايةً يجبُ التأكُّـدُ من الانتفاضات الشعبيّة في العراق ولبنان بدأت بتعبير حقيقي عن معاناة شعبيّة في بلدين متمكّنين بسطت السلطاتُ السياسيّةُ فيها على معظم المال العام في مدى زمني طويل، وأهملت تأسيسَ بُنَىً تحتيةٍ ومواقعِ إنتاج؛ لتلبية الطلبِ الشعبي على أعمال ووظائف.
ولم تهتم في دعم إنتاج داخلي زراعياً وصناعياً يسُدُّ مسألةَ الاستيراد من الخارج.
الخطة البديلة للأمريكي والسعودي في اليمن: إيهام صنعاء بالاستعداد للمفاوضات والعمل سراً على تفجير الأوضاع الداخلية
وما أن بدأ التلاعُبُ الأمريكي بالتضييق على العلاقات الاقتصادية للعراق ولبنان مع الخارج حتى سقطت عملاتُها الوطنيةُ مقابلَ ارتفاع هائل لأسعار الدولار، أي عُملة الاستيراد والتصدير، وأثّرت سلباً على أوضاع الليرة السورية المعتمِدة بدورها على الدولار في عمليات شراء البضائع من خلال لبنان والعراق.. فإذا كان سعر الليرةُ اللبنانيةُ سقط ثلاثين في المئة إزاءَ الدولار فإنَّ سعرَ الليرة السورية سقط ثمانين في المئة ورُبَّما أكثر، وكذلك الدينار العراقي الذي بدا أنّه لا يستطيعُ تحمُّلَ هزةٍ خفيفة.
هناك إذاً ثلاثةُ عوامل تؤدي إلى انفجارات شعبيّة في العراق ولبنان.. وأولها تغليبُ الاهتمام الوطني على الوضع الداخلي في مرحلة تراجع الهجمات الخارجية على الداخل، وهذا تبريرٌ في اللغة السياسيّة لصعود فساد سياسيّ ابتلع كُـلَّ شيء تقريباً، بشعارات التصدي للعدوّ الخارجي والإرهاب.
وإذا كان هذا التبريرُ مقبولاً في حالتَي إيران وسوريا فإنّه ليس مقبولاً في أوضاع العراق ولبنان..؛ لأَنَّه يشكّلُ المناخَ المناسِبَ لتسلُّلٍ أمريكي سعوديّ إلى بعض قيادات المتظاهرين واحتوائهَا بأساليب التضليل والتحريض المالي والفتن العِرقية والمذهبية والقبَلية؛ لتأزيم العلاقات الداخلية، وتصوير ما يجري وكأنه رفضٌ لمحور المقاومة المنتصِر.
إلا أن إيران احتوت “بقوة الدولة” وتأييد مجتمعها كُـلَّ محاولات الخارج وبعض الداخل المنجذِب إليها، وكذلك سوريا التي تعاني من حصار اقتصادي أمريكي عنيف جِـدًّا واحتلالات تركية وأوروبية وأمريكية.. لكن شعبها رفض الانصياع للتحريض الغربي.
ماذا عن اليمن؟ نجحت الدولةُ في صنعاءَ بتحالفاتها أنصار الله والمؤتمر الشعبي والجيش وصمود شعبي خارق في إلحاق هزيمةٍ موصوفة على محور سعوديّ – إماراتي – خليجي مدعوم ومغطّى من الأمريكيين وحلفائهم، وسط صمت روسي – صيني “برجماتي” وتآمر بريطاني – فرنسي إنجليزي.
سر نجاح الدولة اليمنية في وقف الاجتياح الخليجي الغربي الإسرائيلي
فلم يتمكّن كُـلُّ هؤلاء من تنصيبِ هادي والياً على اليمن، وفشلوا أَيْـضاً في بناء معادلات معادية للوحدة اليمنية في شطرِه الجنوبي.
إلا أن عبدربه منصور هادي تمكّن من تغطية عائلاته وأقرباء له لتأسيس شركات وأعمال انتشر فسادها وسطوُها على المال اليمني بمباركة من آل سعود والأمريكيين وبعض المتورطين في الجنوب أَو الشماليين الفارّين إليه من أقرباء الرئيس السابق علي عبدالله صالح وبعض المتورطين من القبائل من آل الأحمر وغيرهم.
إن أسبابَ نجاح الدولة اليمنية في وقف الاجتياح الخليجي – الغربي الإسرائيلي لبلادها يكمُنُ في تطبيق خطة من أربع مراحل:
أولاً: التموضع في مساحات يمكن الدفاعُ عنها في الأنحاء الجبلية والساحلية والمدن والمواقع الاستراتيجية.
ثانياً: مرحلة الدفاع الشرس والمقتدِر مع بعض الغزوات الداخلية، وهذه نجحت في تثبيت العدوان السعوديّ الإماراتي الأمريكي عند خطوط مهزوزة وواهية قابلة للاختراق في كُـلّ حين.
ثالثاً: الانتقال من الدفاع إلى الهجوم في معظم الجبهات اليمنية، والدفاع المستميت عن الساحل الغربي في الحديدة؛ لعلاقته بخطة سعوديّة أمريكية – إسرائيلية لعزل المنطقة الشمالية اليمنية ضمن حصار سعوديّ – إماراتي – برعاية أمريكية من الغرب والجنوب والشرق والشمال عند الحدود السعوديّة.
وبانكسار هذا المخطّط احتفظ اليمنُ العنيدُ بانفتاحه على البحر وهو مرتاحٌ إلى وضعِه في معظم الجبهات.
أما المرحلة الرابعة فهي الأكثرُ شجاعةً وحنكةً ودهاء.. وتتعلقُ بقرار يمني بنقل الحرب إلى الداخل السعوديّ ومعه الاقتصاد الغربي.
وبذلك بدأت المعارك من صعدةَ إلى جيزانَ وامتداداتها في الداخل السعوديّ، حيث سجل اليمنيون أروعَ الانتصارات التي كشفت أن الجيشَ السعوديّ يضم سعوديّين قلائلَ والكثير من المرتزِقة الأكثرية من الجيش السوداني وباكستان ومصر وهم بعشرات الآلاف إلى جانب مستشارين غربيين.. ولم يكتفِ المنتصرون بهذا المستوى فبدأوا قصفاً استهدف مراكزَ عسكريّة واقتصادية، وصولاً إلى شركة أرامكو دُرّة التاج النفطي السعوديّ وقلب النظام الاقتصادي الغربي، وكان آل سعود يعتقدون أن هذه المصفاة في مأمنٍ من المسيّرات والصواريخ اليمنية لأهميتها الحيوية بالنسبة للغرب والأمريكي والأوروبي.
ما أصابهم بصدمة أذهلتهم.. وأوصلت حربَهم إلى حائط مسدود.. فابتدأوا على الفور مع أسيادهم الأمريكيين بوضع خطة جديدة من نقطتين:
الأولى تقومُ على إيهام دولة صنعاء باستعدادٍ سعوديّ لمفاوضاتٍ مثمرة معها، والثانية تعملُ سراً على تفجير الأوضاع الداخلية في اليمن من خلال تحريض الأهالي على انتفاضات؛ بسَببِ الضيق والجوع وانحسار الموارد الأَسَاسية.
لذلك بدأت السعوديّةُ بإيفاد الرُّسل إلى صنعاء للإيحاء بمفاوضات قريبة، فيما كانت أجهزة مخابراتها تجهدُ لشراء زعامات عشائرية واجتماعية بوسعها قيادةُ انتفاضات جماهيرية على الطريقة العراقية واللبنانية، وذلك باستغلال حصار أمريكي حول اليمن يمنع المواد الغذائية والاقتصادية من الدخول إلى أسواقه.
لقد باغت اليمنيون آل سعود بقدرتهم على كشف المكر السعوديّ، فاكتشفوا شبكتين كانتا تحاولان تنظيمَ اضطراباتٍ داخلية، وأسقطوا طائرتي أباتشي ومسيّرة سعوديّتين برباطة جأش وحزم، مانعين من دفع اليمن نحو اضطراب داخلي يؤسّسُ لفتنةٍ بين الدولة والمجتمع، دافعاً البلادَ نحوَ فراغٍ سياسيٍّ يضعُ اليمنَ مجدّداً تحت رحمة اجتياح سعوديّ يضعُه في خدمةِ نفوذه.
وهكذا يثبت اليمنيون مرةً جديدةً أن العصرَ السعوديّ ولّى وإلى الأبد مقابلَ ولادة زمنٍ يمني بوسعه أداءُ دور كبير في شبه الجزيرة العربية، معيداً وصلَ المشطور من كيانه التاريخي.
* كاتبٌ لبناني