المثقفون والمبدعون ومسؤوليةُ الوعي المجتمعي .
إب نيوز ١٠ ديسمبر
يُعدُّ الوعي ركيزةً من ركائز تقدّم أيِّ مجتمعٍ وتطوّره, بل وله دوره الكبير والرئيس في استقرار المجتمع والنهوض به، فتطويرُ الوعي يبدأُ من الذات أولاً, وبابُه مراقبةُ الإنسان لنفسِه، أي مراقبةَ أفكاره ومشاعره وسلوكه وثقافته وملاحظة تلك الأفكار التي تُشعره بالغبطة والحيوية والانفتاح والأفكار التي تسلبه طاقته, وتشعره بالضعف أَو الألم والمعاناة والانغلاق على الذات, إن الإنسانَ من خلال مراقبته لنفسه سيصلُ إلى أن مشاعرَه معظمُها وليدةُ أفكاره, وأن سلوكَه وليدُ أفكاره ومشاعره.
يُجمع الباحثون على أن الوعيَ هو مقياسُ تطوّر المجتمعات؛ لأنه يُمكِّننا من إصدار أحكام على التصرفات والسلوكيات الفردية والمجتمعية فنقبله لإنجابيتها, أَو نرفضها لسلبيتها, وهذه الأحكامُ نابعةٌ من مدى شعور الفرد بمسئوليته تجاه نفسه والآخرين, وحين ينحو الأفرادُ إلى التعبير عن سلوكياتهم, في كُـلِّ مناحي الحياة تعبيراً إيجابياً, فَإنَّهم بهذا يكونون قد حملوا هم الوعي, وسعوا إلى نشرِه, ونجحوا في مقاصدِهم, وهذا ما فعله الإسلامُ وحرص عليه.
وإذا كان الوعيُ مطلوباً على المستوى الفردي لتحقيقِ النجاح فَإنَّه سيكون أوجب، بمراحلِه على المستوى المجتمعي للنهوض بالمجتمع وتحقيق أهدافه وتحصيل المصالح الكبرى وتجاوز العقبات، وستتجسّد حالةُ الوعي هذه في طريقة وحركة قياداته الإدارية والسياسية والاجتماعية الفاعلة، سواءٌ أكانوا أفراداً أَو مؤسّسات.
فحين يكون المجتمعُ واعياً مثقّفاً مدركاً لواقعه كما هو دون مغالطةٍ أَو تزييفٍ, ومُلمّاً بما يتطلبه النجاحُ من مقدّمات ولوازم وتضحيات، ومنتبهاً للمخاطر المتربّصة به، فَإنَّه حينها سيكونُ قادراً على النهوضِ الحضاري، والانتصار المشرّف، ولكن المصيبةَ كُـلَّ المصيبة حين لا يكون المجتمعُ واعياً مثقّفاً ومغيباً غيرَ مُلمٍّ ومدركٍ بواقعه وظروفه ومكائدِ أعدائه التي تتصاعدُ بشدّة هذه الآونة عبر أبواقها المختلفة، فيعيشُ على غير هدى ووضوح في السياسات والخطط والرؤى المستقبلية، وتراه متخبّطاً في أزماته متنقلاً بينها دون خطوات حقيقية تأخذه للأمام، بل تمضي السنواتُ الطوال والعقود المتتابعة وهو يراوح مكانَه وربما تراجع إلى الوراء.
ولهذا فَإنَّ الشخصَ الواعي المثقف بمثابة صمام الأمان لمجتمعه, حين يبصرُ ويُحلّلُ ويُوضّحُ الحقائقَ وينبه وينوّه بالمخاطر, وحين يصبحُ هذا الصمامُ محصناً بالوعي والأمانة والصدق والإخلاص يبقى المجتمعُ آمناً من أيِّ مستغلٍ أَو طامع أَو غزو فكري أَو ثقافي يهدم بنيانه ويفتت كيانه بعد فشلِه في ذلك عسكريًّا.
هناك من المثقفين والمبدعين الواعين أنواع باتت واضحةً وضوحَ الشمس في يمن الإيمان والحكمة، هناك نوع يكتفي بدور المتفرّج إزاء ما يحدث, وكأنه غيرُ معني بما يجري, سابحاً في قضاياه الشخصية, غارقاً في أمور سطحية وهامشية مستمرّاً في بناء اسمه وكيانه وشهرته، وهناك نوعٌ آخرُ هدام يدعو للتشاؤم وإلقاء اللوم على الحكومات وَالمجتمعات, ويشيع ثقافةَ الإحباط واليأس, وهناك نوعٌ متفشٍّ كالخلايا السرطانية التي تنخرُ في عَضُدِ ووعي المجتمعات وهو الأخطرُ، وهو ذاك النوع الانتهازي المتسلق المريض، الذي يستغل الأحداثَ لتلميع صورته وإبراز اسمه في كُـلِّ ميدان, شخص لا يعطي الحلولَ ولا تنتظر منه حقائق, بل ويتغنّى بالأحداث تماشياً مع الجو المحيط، ليس له مبدأ واضح ولا فكر صادق ككلِّ صاحب دور منافق, وصوت متلون حسب السياسات العامة التي توجّـهه كواليسُ الأعداء، وهذا النوعُ لا يخدم مجتمعَه بل يخدم مصلحتَه وأهواءَه واستمرارَ تبعيته لهذه الدولة أَو تلك.
أما النوعُ الذي يحتاجه المجتمعُ اليومَ فهو الذي يبني المجتمعَ، صاحب القضية الحقيقية، ذاك الشخص الفاعل المتأثر بقضايا المجتمع، لسان حال الشعب ووعي الأمة ونبراس الحَـقّ والعدل، الذي يسعى جاهداً لبناء مجتمع مستنير بوعي ورسالة وأمانة، مدركاً حجمَ المسئولية التي وقعت على كاهله, وأن لقبَ مثقف أَو مبدع إنما هو لقبُ مسئولية لا تشريف، وأنه يحملُ في رقبته أمانةَ وعي ومصير، وذاك النوعُ المنشودُ لا يصيبه اليأسُ من التناقضات الموجودة, بل يستمرُّ في طرح الأفكار والنقد البنّاء والرفض لأية تجاوزاتٍ للثوابت، سياسيةً كانت أَو مجتمعيةً، ومحاربة أي سلوك عدائي وأية آفة فكرية مغلوطة تصيب ثقافةَ ووعيَ المجتمع، تتملّكه الغيرةُ على الوطن والشعب، ويحارب أيَّ قرارٍ قد يضرُّ مصالحَ الشعب, يقدّم المصلحةَ العامة للشعب على مصلحته الخَاصَّة، ولربما يدفع الغالي والنفيس في المقابل دون أيِّ عائد شخصي عليه, سوى أنه صاحبُ رسالة صادقة يحمل أمانةً في رقبته وهموم مجتمع يتألّمُ من أجله, وتقعُ جميعُها على كاهله, فالمجتمعاتُ والأممُ لا تُبنَى بالتمني والانبطاح للخارج، وإنما تُبنَى بالإرادة الوطنية الحقيقية والضمائر الحية التي تدفعُ للبناء بالعقل والعمل بصدقٍ ووعيٍ وأمانة وإخلاص.